لم يكن الفراق بينهما صخبًا، بل نسمةً باردة باغتت ظهيرة صيفٍ مشتعل.
جاء هادئًا، عاريًا من الضجيج، لكنه جارح كحدّ السكين. لم يكن هناك خلاف، لم تنكسر بينهما ثقة، لم تُسجَّل خيانة واحدة… لكن النهاية جاءت، مفروضة كقدر كتب بيدٍ لا ترحم. كُتب كحكمٍ جبريّ لا مهرب من تنفيذه.
أحبا بعضهما كأنهما نُسجا من روح واحدة، علاقة تجاوزت المنطق، قلبه ينبض على إيقاع صوتها، ونبضه يرتب يومها.
كانت نصفه الهادئ وقلبه الجميل، وهي هو حين يهدأ، وأيضًا حين يشتعل. يعرفان أحوال بعضهما دون كلام، يكتفي أحدهما بأن يتنفس، فيشعر الآخر بالاختناق أو الراحة. الحلم لا يُولد في رأس أحدهما دون أن يكتمل عند الآخر، كل شيء بينهما مشترك، حتى المنام.
حين يرى حلمًا، يوقظها في الصباح، فتُكمل له ما رآه، وتضحك وتقول: “أتحسب أن الأرواح تنام؟ أرواحنا لا تخلد إلى النوم، بل تحرس بعضها.” كانت تشاركه تفاصيل الحلم دون أن يكمل كلامه عنه، كما تشاركه أنفاس الحياة.
ثم… انتهى كل شيء.
أجبرتهما الظروف، وتفرقا على غير ميعاد. تدخل الناس، واحتار الوسطاء، لم يصدق أحد أن من كانت بينهما تلك العلاقة قد يفترقان. لم تكن النهاية بخيانة أو جرح عميق، بل سلسلة من لحظات صغيرة لم تُفهم في وقتها؛ شعور بعدم التقدير، ومواقف كان يمكن تداركها لولا قسوة الظروف وانعدام الخبرة. وربما بدا السبب تافهًا في عيون الآخرين، لكنه كان ندبة في القلب.
ودّعها كمن يسلم روحه ولا يعرف إن كانت ستُرد له يومًا. لم يصرخ، لم يتوسل، فقط نظر في عينيها وقال: “لو كانت الدنيا تملك قلبًا، لما فرّقت بين قلبين هكذا.”
افترقا دون نسيان، وسلك كلٌّ منهما طريقه.
مرت الأيام، وظل شعور وجودها يطارده. صار يتلمس ملامحها في زوايا البحر، في المقاعد الخشبية المطلة على الموج، حيث كانت ضحكتها تعانق نسيم الغروب. يمشي بمحاذاة الشاطئ، حيث بقايا حديثها، يراقب طاولة مهجورة، ويتخيلها تجلس أمامه بكفها تحت ذقنها، تروي له شيئًا لا يهم، يكفي فقط أن صوتها لا يزال يطرق سمعه.
في أحد الأيام، حين كان البحر ساكنًا والهواء مالحًا، عرف أن أخو “وردة” مات غرقًا. حاول إنقاذ أربعة، أنقذ ثلاثة، وفقد حياته. ذهب ليعزّي، لا يعلم هل الحزن على الراحل، أم على كل ما رحل معه.
جلست “وردة” في هدوء، دموعها تغسل وجهها، ملامحها منطفئة، وصوتها مبحوح من البكاء. التقت عيناهما… فسكتت.
في لحظة، سكن كل شيء. لم يمنحها كلمات، بل شيئًا يشبه الصبر والسلوان. كانت تبكي على أخيها، لكنها أيضًا كانت تبكي نفسها.
قالت في داخلها: “جئت… في اللحظة التي تمنّيتُ فيها ألّا أكون وحدي. لم تقل شيئًا… لكن حضورك وحده، كان عزائي.”
العيون من حولهما كانت تراقب بصمت. الجميع انصرف عن واجب العزاء، والتفت إلى السكون الممتد بينهما. لم يتحرك، ولم تقترب، لكنه كان أقرب ما يكون.
لم تُقل كلمة، لكن النظرة كانت كافية لتُطفئ نيرانًا وتشعل أخرى. كافية لتوقظ الماضي، وتمنح الحاضر لحظة راحة. كأن الحزن جمع بين ما فرّقته الحياة، ولو لثانية.
أدار وجهه ومضى. وهي… أغمضت عينيها، لا لتبكي، بل لتحتفظ بالنظرة قدر ما تستطيع.
وفي صباحٍ عادي الملامح… تحقّق ما كان يؤمن به طوال الوقت.
شارع جانبي، طريق شبه فارغ. سيارته تمضي ببطء، نافذته مفتوحة، كعادته حين تهاجمه الذكريات.
مطب صناعي أمامه.
يُبطئ.
في اللحظة ذاتها، تقترب سيارة من الاتجاه الآخر. نافذتها مفتوحة. ومن بين الزجاجين… نظرة.
كانت رائحتها تفوح من السيارة، كأن الذاكرة قررت أن تخرج من صمتها، وتجعله يراها كما حفظها تمامًا.
العين بالعين. الزمن توقّف.
كل شيء صامت، إلا القلوب. نظرة واحدة، لحظة واحدة، لكن كل شيء انكشف فيها. كلّ ما لم يُقل، قيل. كل الأسئلة، كل العتاب، كل الشوق… مرّت كلها في لحظة.
لم يكن يعرف أنها اشترت سيارة. ولم تكن تتوقع أن تراه. لكنه رأى “وردة”، ورأته، عند مطب صناعي صغير، جعل الأرواح تتلاقى ولو لثانية.
تحركت السيارة. ومضى هو أيضًا في طريقه.
لم يوقفها. ولم تتراجع.
لكن ما حدث لا يمكن تجاهله.
كأن المطب لم يكن في الطريق، بل في القلب. كأنه جاء ليهز ذاكرتهما، ليخبرهما أن شيئًا بينهما لم يمت. أن الحب لا يموت، لكنه أحيانًا… يمرّ فقط ليذكّرنا بأنه كان موجودًا، وأنه ما زال حيًا، في مكانٍ ما داخلنا، لا يموت ولا يُنسى.
القصة مستوحاة من أحداث واقعية.