في كتابه الجديد الصادر حديثًا عن دار ريشة للنشر والتوزيع بالقاهرة تحت عنوان “معادلات مختلة في براح الاختلاف ومستصغر الشرر”، يخوض الكاتب عبد الوهاب داود مغامرة فكرية ونقدية جريئة، أشبه ما تكون بـ”مرافعة طويلة” ضد الوسط الثقافي العربي بما فيه من رموز، مؤسسات، جوائز، وصحافة. 
الكتاب الذي يقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، يقدّم نفسه باعتباره محاولة لكسر الصمت، ومراجعة المسكوت عنه في الفكر والأدب، وإعادة مساءلة الأسماء الكبرى قبل الصغيرة، بعيدًا عن التقديس والتابوهات التي خنقت الحياة الثقافية لسنوات طويلة.

كسر التابوهات وتفكيك “المقدسات الأدبية”

منذ الصفحات الأولى يعلن المؤلف موقفه بوضوح: لا وجود لمقدسات في الفكر، ولا أسماء فوق النقد. فالمفكرون والأدباء الكبار –بحسبه– يجب أن تُعرض أفكارهم على “ميزان العقل”، ويُراجع نتاجهم بصرامة، لأن التقديس هو الذي عطّل العقل العربي وجعل من بعض الرموز أصنامًا لا تمس، في هذا السياق يتوقف داود عند أسماء كبرى في الأدب العربي مثل نجيب محفوظ والطيب صالح، معتبرًا أن أعمالهم رغم قيمتها تحتاج إلى مراجعة نقدية موضوعية، بعيدًا عن الهالة الإعلامية التي أحاطت بهم، والتي صنعتها الصحافة والجوائز أكثر مما صنعتها القيمة الفنية ذاتها.

الجوائز الأدبية.. “دس السم في العسل”

أحد أكثر فصول الكتاب إثارة للجدل هو ما يخص الجوائز الأدبية العربية، التي يصفها المؤلف بأنها “عصابات اقتسام للمخلفات”، فالجوائز في رأيه لم تعد وسيلة لدعم الإبداع أو تحفيز المواهب الجديدة، بل تحولت إلى “أداة للتلاعب” وتوزيع النفوذ داخل شلل أدبية مغلقة. 
ينتقد داود في هذا الإطار غياب المعايير الحقيقية، ووقوع الجوائز الكبرى تحت تأثير العلاقات الشخصية، والترضيات السياسية أو المؤسسية، الأمر الذي أفقدها قيمتها في نظر الكثيرين، ويصل به القول إلى أن الجوائز أصبحت “مسمومة”، لأنها تُكرّس للأسماء ذاتها وتُقصي المختلف، وتعيد إنتاج منظومة ثقافية مأزومة بدلًا من تجديدها.

الصحافة الثقافية.. صدى بلا صوت

ينتقل الكاتب إلى الصحافة الثقافية، فيتهمها بأنها جزء من الأزمة لا وسيلة للخروج منها. فالصحافة التي كان من المفترض أن تكون جسرًا بين الإبداع والجمهور، تحولت إلى “صدى مشوَّه” يعيد ما يقوله النافذون في الوسط الثقافي، ويروّج للأسماء المحسوبة على الشلل الأدبية. ويرى أن القارئ العربي اليوم لا يعرف من الأدباء إلا من تلمعهم الصحافة والجوائز، في حين يظل المبدعون الحقيقيون خارج الأضواء، هذه “الانتقائية الإعلامية” هي ما وصفه داود بـ”التسمم الثقافي”، حيث يغدو المشهد مشوهًا في نظر القارئ، وتختفي الصورة الكاملة عن حقيقة الإنتاج الأدبي العربي.

رحلة إفساد الصحافة الثقافية

من أبرز الفصول التي يتوقف عندها داود ما عنونه بـ«رحلة إفساد الصحافة الثقافية»، وهو فصل يفتح واحدًا من أكثر الملفات حساسية وإثارة للجدل، هنا يطرح المؤلف سؤالًا مباشرًا: «ألا يوجد مبدعون في العالم العربي من غير العاملين في المطبوعات الأدبية والجهات المنظمة للمؤتمرات مدفوعة التكاليف؟».
يستعيد داود قصة حقيقية يعرفها معظم من لهم صلة بالوسط الثقافي في مصر وبعض الدول العربية: لجنة تحكيم لإحدى الجوائز الأدبية، تشكلت بطريقة مريبة من أربعة محررين ثقافيين يعملون جميعًا في صحيفة قومية واحدة، إلى جانب بعض الأسماء الأكبر سنًا. وفي مفارقة صارخة، كان من بين المتسابقين على الجائزة زميلهم في المكتب ذاته، يجلس معهم يوميًا، يتقاسمون معه الأحاديث والضحكات وربما حتى الخلافات.
النتيجة لم تكن مفاجئة: فاز الزميل بالجائزة، وسط صمت من المفترض أنهم مثقفون يفترض بهم الدفاع عن النزاهة، ثم تحولت الجائزة إلى أداة لتدشين «موهبة» مُخترعة، عبر سلسلة حوارات ومقالات احتفائية كتبها الأعضاء أنفسهم، ليصير المشهد برمته كاريكاتورًا عبثيًا يعكس عمق الأزمة.
داود لا يكتفي بسرد القصة، بل يضعها في سياق أوسع: قصص مشابهة تتكرر بأسماء مختلفة، في أزمنة وأماكن متعددة، لتشكل ملامح واضحة لرحلة طويلة من الفساد والإفساد، ويصل في النهاية إلى حكم قاسٍ: الجميع شركاء في الجريمة، بعضهم بالصمت وبعضهم بالتواطؤ وبعضهم بالاستفادة من الفتات.

أزمة الأدب العربي عالميًا

يربط المؤلف بين هذه الأزمات الداخلية وغياب الأدب العربي عن المشهد العالمي. فباستثناء استثناءات محدودة، لم يستطع الأدب العربي أن يحقق حضورًا مؤثرًا على المستوى الدولي، والسبب –بحسب داود– هو هذه البنية المختلة التي تحكم المشهد الثقافي: من التقديس المبالغ فيه لبعض الرموز، إلى فساد الجوائز، وضعف الصحافة، وسطحية حركة الترجمة التي لم تبنِ جسرًا حقيقيًا مع الثقافات الأخرى، في نظره، العالم لا يرى من الأدب العربي إلا القشور التي اختارتها هذه المنظومة المأزومة، وليس الجوهر الذي يليق أن يُقدَّم.

المعادلات العالمية.. من الأوسكار إلى المثلية

الكتاب لا يقف عند حدود المشهد العربي فقط، بل يتوسع إلى نقد بعض المعادلات الثقافية العالمية التي يراها المؤلف مختلة أيضًا، فيتوقف عند السينما الأمريكية وجوائز الأوسكار، ويرى أنها بدورها لا تعكس القيم الفنية بقدر ما تخضع لحسابات السياسة والتمثيل، كما يثير موضوع المثلية الجنسية وما يُفرض ثقافيًا وإعلاميًا على المجتمعات كجزء من “موضة” العولمة الثقافية، معتبرًا أن هذه المعادلات تحتاج إلى مراجعة شجاعة توازن بين الحرية الفردية وبين خصوصية المجتمعات وهويتها.

لغة الكتاب.. صدمة مقصودة

أسلوب عبد الوهاب داود في الكتابة يتسم بالحدة، وأحيانًا بالسخرية المبطنة، لكنه لا يخفي مقصده: إحداث صدمة للقارئ. فهو لا يكتب بلغة أكاديمية محايدة، وإنما بلغة أقرب إلى المرافعة أو الهجوم المباشر، يستخدم استعارات قوية، مثل وصفه الجوائز الأدبية بأنها “عصابات اقتسام مخلفات”، أو قوله إن الصحافة الثقافية “تسمم القارئ العادي”، هذه اللغة قد تثير غضب التقليديين وتدفعهم لاتهامه بالمبالغة أو التشويه، لكنها في الوقت نفسه تضمن أن رسالته تصل بوضوح، وتفتح باب النقاش حول قضايا تم التعتيم عليها طويلًا.

“معادلات مختلة في براح الاختلاف ومستصغر الشرر” ليس كتابًا سهل القراءة، ولا يصلح لمن يبحث عن مديح متبادل أو تطمينات معتادة، هو كتاب جدلي، صادم، ومقلق، لكنه في النهاية يطرح أسئلة لا مفر من مواجهتها: هل نعيد النظر في رموزنا الأدبية بعيدًا عن التقديس؟، هل يمكن إصلاح منظومة الجوائز الأدبية لتصبح منبرًا للإبداع لا أداة للمصالح؟، هل تستطيع الصحافة الثقافية أن تتحرر من دورها الترويجي وتصبح جسرًا حقيقيًا للقارئ؟، وهل يمكن أن يكون للأدب العربي مكان يليق به في العالم إذا لم نجرؤ على هذه المراجعات؟، هذه الأسئلة تظل مفتوحة، لكن المؤكد أن كتاب عبد الوهاب داود قد ألقى حجرًا ضخمًا في مياه راكدة، وسيبقى أثره في النقاش الثقافي العربي طويلًا، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version