لعل مجرد تخيل أن تكون واحدًا ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، من أشد الأمور التي قد لا يتحملها عاقل، بل يمكن القول بأن تكون ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة يعد من أصعب العقوبات وأسوأ مصير قد يواجهه العبد بالآخرة ، أعاذنا الله وإياكم من هذا المآل ، ومتعنا بالنظر لوجهه الكريم.

 وهنا ينبغي العلم بأن هناك ثلاثة أفعال يستهين بها الكثيرون ، فيما أن عاقبتها الحرمان من رحمة الله تعالى والنظر لوجهه الكريم ، فإذا وقعت في أحدها فقد خسرت خسرانا كبيرًا لأنك ستكون واحدًا ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة .

لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة

ورد أنه قال أبو ذر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم”، قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟، قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب”.

و أخرج مسلم (106) باختلاف يسير، وحدثه ابن جرير الطبري ، في مسند على الصفحة أو الرقم : 56، أنه روي عن أبو ذر الغفاري -رضي الله تعالى عنه – أنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا ينظرُ إليهم ولا يُزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ قال فقالها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثلاثَ مراتٍ قال فقال أبو ذرٍّ خابوا وخسروا خابوا وخسِروا خابوا وخسِروا من هم يا رسولَ اللهِ قال المُسبلُ إزارَه والمنَّانُ والمُنفِّقُ سلعتَه بالحلفِ الكاذبِ).

وفي رواية أخرى بصحيح مسلم ، أنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ: المَنَّانُ الذي لا يُعْطِي شيئًا إلَّا مَنَّهُ، والْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الفاجِرِ، والْمُسْبِلُ إزارَهُ. وفي رواية: ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ولا يَنْظُرُ إليهِم ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ).

و كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَثيرًا ما يُحذِّرُ أصحابَه رَضيَ اللهُ عَنهم من سَيِّئِ الصِّفاتِ وقَبيحِ الأعمالِ، وكانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَديدَ الحِرصِ على كلِّ ما يُقرِّبُهم من الجَنَّةِ في الآخِرةِ.

 وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن ثَلاثةِ أنواعٍ منَ النَّاسِ لا يُكلِّمُهمُ اللهُ يومَ القيامةِ كَلامًا يَسُرُّهم؛ استِهانةً بِهِم وغضَبًا عَليهِم، وهذِه عُقوبةٌ لهم على جُرمٍ قد وقَعوا فيهِ.

وفي رِوايةٍ: «ولا يَنظُرُ إلَيهِمْ»، وهَذه مُبالَغةٌ في العُقوبةِ؛ فلا يَنظُرُ اللهُ إلَيهِم نَظرةَ رَحمةٍ فيَرحَمَهم، «ولا يُزكِّيهمْ»؛ أي: لا يُطهِّرُهم ولا يَغسِلُهم من ذُنوبِهم ودَناءَتِهم، «ولهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ»؛ أي: فوقَ كلِّ تِلكَ العُقوباتِ فسَوفَ يَدَّخرُ اللهُ لهُم عَذابًا شَديدًا؛ فيُضاعِفُ عَليهِمُ العُقوبةَ.

وورد أنك قد تكون واحدًا ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة إذا وقعت في أحد هذه الأفعال، الأوَّلُ فهو المَنَّانُ الذي يمُنُّ بالعَطاءِ بعدَ أن يُعطيَه، والمنُّ في العَطيَّةِ هو التفاضُلُ والتَّعالي على الآخِذِ.

 فَلا يَنبغي لِلمُنفِقِ الِامتنانُ عَلى المُنفَقِ عَليهِ، سَواءٌ بقَلبِه أو بلِسانِه؛ كأن يُخبِرَه بأنَّه تَفضَّلَ عليه بمَنحِه شَيئًا، وأنَّه مَدينٌ له لِقاءَ مَعروفِه، ولا يَقولُ أو يَفعَلُ أيضًا مَكروهًا للمُنفَقِ عَليه يُنافي ما قدَّمَه له من إحسانٍ، فذلكَ مَحظورٌ؛ لِما فيه من تَكبُّرِ المُنفِقِ واستِعلائِه، واستِعبادِ المُنفَقِ عَليهِ، وكَسرِ قلبِه وإذلالِهِ، بل على المُعطي في سَبيلِ اللهِ تَعالَى أن يَشهَدَ دائمًا أنَّ المُتفضِّلَ والمُنعِمَ حَقيقةً هو اللهُ تَعالَى وَحدَهُ، وعَليه أن يَتفكَّرَ أيضًا في أنَّ أجرَه عَلى اللهِ تَعالَى بأضعافِ ما أعطَى، فأيُّ حقٍّ بَقيَ له عَلى الآخِذِ المُحتاجِ حتَّى يَمتنَّ عَليهِ، أو يُؤذيَه بصَنائعِ مَعروفِه؟!.

والنَّوعُ الثَّاني: الذي يَحلِفُ على بِضاعَتِه كاذِبًا؛ ليُرَوِّجَها ويُحلِّيَها في أعينِ المشتَرينَ بالكذبِ والخِداعِ، وهو بحَلِفِه الكاذِبِ قَدِ اقترفَ وأوقَعَ نفسَه في أربعِ مَعاصٍ: الحَلِفِ الكاذِبِ، وغِشِّ المُسلِمِ، وأخذِ المالِ بغَيرِ حقٍّ، والاستِخفافِ بحقِّ اللهِ، وفيه يَقُولُ تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

 والنَّوعُ الثَّالثُ: الذي يُطيلُ ثيابَه ويَترُكها تُجَرجِرُ على الأرضِ تَكبُّرًا وفخرًا؛ يَدلُّ عَلى ذلكَ رِوايةُ الصَّحيحَينِ عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: «لا يَنظُرُ اللهُ يومَ القيامةِ إلى مَنْ جرَّ إزارَهُ بَطَرًا»، والإزارُ هو اللِّباسُ الذي يُغطِّي الجُزءَ الأسفلَ من الجِسمِ.

و قيلَ: إنَّما جمَعَ بَينَ الثَّلاثةِ وقَرَنَها؛ لأنَّ المُسبِلَ هو المُتكبِّرُ المُرتفِعُ بنَفسِه عَلى النَّاسِ وَيَحتقِرُهُم، والمنَّانُ إنَّما منَّ بعَطائه لِما رَأى من عُلوِّه عَلى المُعطَى له، والحالِفُ البائعُ يُراعي غِبطةَ نفسِهِ، وهضْمَ صاحِبِ الحقِّ؛ فتَحصَّلَ منَ المَجموع ِاحتقارُ الغَيرِ، وإيثارُ النَّفسِ؛ ولذلك يُجازيهِمُ اللهُ تَعالَى باحتقارِه لهم، وعدمِ التِفاتِه إلَيهِم.

و ذِكرُ هؤلاءِ الأصنافِ الثَّلاثةِ في هذا الحَديثِ لا يَعني الحصرَ، ولا يَمنَعُ من وُجودِ أصنافٍ أُخرى استَحقَّت نفْسَ العَذابِ، كالشَّيخِ الزَّاني، والمَلِكِ الكَذَّابِ، والعائلِ المُستَكبِرِ، كَما في صَحيحِ مُسلِمٍ من حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ.

وفي الحديثِ: التَّحذيرُ منَ المنِّ، والحلِفِ الكاذبِ، والإسبالِ؛ فقَد تُوعِّدَ مَن فعَلَ ذلكَ بأشدِّ العُقوبةِ، وفيهِ: إثباتُ صِفةِ الكَلامِ والبصَرِ للهِ عزَّ وجلَّ عَلى الوجهِ اللَّائقِ به جلَّ جَلالُهُ، من غَيرِ تَشبيهٍ ولا تَمثيلٍ ولا تَكييفٍ؛ فإن لم يُكلِّمِ الأصنافَ الثَّلاثةَ ولم يَنظُرْ إلَيهِم، فهُوَ يُكلِّمُ غَيرَهم ويَنظُرُ إلَيهِم.

من لا ينظر الله إليه يوم القيامة

وورد أن أصحاب هذا القسم محرومون من نظر الله إليهم يوم القيامة، وهم:

صاحب العقوق، والمتشبّهة من النساء بالرجال، والديوث الذي يُقرّ الفجور في أهله، ورد فيهم حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، والمرأة المترجّلة المتشبهة بالرجال، والديّوث) رواه أحمد والنسائي.

وورد كذلك من المحرومين من نظر الله تعالى: من يعملون عمل قوم لوط، أو يأتون زوجاتهم في غير ما أحلّ الله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً، أو امرأةً في الدّبُرُ) رواه الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( إن الذي يأتي امرأته في دُبُرها، لا ينظر الله إليه) رواه النسائي.

شرح حديث “لا يكلمهم الله” 

يُقصد بـِ -لا يكلمهم الله-؛ أي نفي كلام الله -تعالى- لهذه الفئات كما ورد في الحديث الشّريف؛ فالله لن يكلّمهم كما يكلّم الرّاضي عنهم يوم القيامة حين يُجازيهم على أعمالهم، وقيل معناها الإعراض عنهم، وقال جمهور المفسرين لا يُكلّمهم بما يسرّهم وينفعهم، وقيل لا يرسل إليهم الملائكة بالتحيّة.

ولا يقتصر العقاب الوارد في الحديث على هذه الأصناف وحسب، بل قد يدخل فيه غيرهم، فهذه الأصناف ليست على سبيل الحصر، كما أنّ ترتيب الذّنوب في الحديث لا يوجب ترتيب ذنبها تصاعدياً أو تنازلياً، فالذنب المترتب على كلّ منها بحسب ما يترتب عليها من الآثار والمخاطر، وهذا العقاب ليس لأشخاص بأعينهم، بل المراد من الحديث هو الفئات الذين اتّصفوا بهذه الصّفات مهما بلغ عددهم.

وذكر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث ثلاث فئاتٍ من النّاس الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يُزكيهم ولا ينظر إليهم، وقد ورد الحديث بثلاث روايات؛ فالرّواية الأولى أصنافها: المُسدل ملابسه تكبراً بين النّاس، والذي يمنّ على النّاس بما يُقدمه لهم، والبائع سلعته بيمين كاذبة.

وورد في الرّواية الثانية أصنافها: الشّيخ الزّاني، والملك الكذّاب، والفقير المُستكبر، أمّا الرّواية الثالثة فأصنافها: الذي يمنع الماء عن محتاجه، والحالف على البيع، والمبايع للخليفة على الدنيا، وهذه الأصناف لا تنحصر بشخصٍ معيّن، بل تشمل كل من اتّصف بها، فينال العقاب بجنسها من الله -تعالى- يوم القيامة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version