لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة على الأرض، بل كانت معركة على الروح… روح الإصرار التي كسرت نظرية “الجيش الذي لا يُقهر” وأعادت لمصر والعرب ثقة ضاعت منذ نكسة 1967. اليوم، وبعد أكثر من خمسة عقود، يطل السؤال من جديد: هل ما زالت تلك الروح تسكننا، أم سُرقت منّا تحت ضجيج السياسة وأصوات الميكروفونات؟
في كل عام، يعود السادس من أكتوبر في مشهد احتفالي مألوف. لكن خلف الأغاني والأعلام، هناك صمت أعمق لا يُسمع إلا في عقول من يتساءلون: أين اختفت روح التضحية والانتماء التي صنعت النصر؟ هل تحوّل أكتوبر إلى ذكرى أكثر منه حالة وعي يعيشها الجيل الجديد؟
الحقيقة أن حرب أكتوبر لم تكن انتصارًا عسكريًا فحسب، بل كانت مشروعًا وطنيًا شاملًا أعاد بناء الإرادة المصرية من تحت الأنقاض. فبينما كان السلاح يعبُر القناة، كانت القيادة المصرية تعبُر فكرة الهزيمة ذاتها. لكنّنا اليوم نعيش زمنًا مختلفًا؛ زمنًا أصبح فيه النصر يُقاس بعدد “المشاهدات” لا بعمق الإيمان، وبقوة التصريحات لا بصدق الفعل.
الجيل الذي عبر القناة لم يكن يسأل: “كم راتبي؟” أو “أين صورتي؟”، بل كان يسأل: “هل سنحرر الأرض؟”
الجيل الحالي، رغم وطنيته الفطرية، يعيش وسط عالم متسارع تُباع فيه القيم في سوق السياسة، وتُقاس فيه الأوطان بميزان الربح والخسارة. وهنا تحديدًا تكمن الأزمة: سرقة روح النصر لم تأتِ من الخارج، بل من داخلنا نحن.
في الوثائق العسكرية الغربية، التي أُفرج عنها مؤخرًا في واشنطن ولندن، يعترف المحللون بأن “الجيش المصري خاض حربًا نفسية قبل أن يخوض حربًا ميدانية”. تلك الحرب النفسية كانت سرّ العبور الحقيقي — عبور الخوف، عبور الشك، وعبور حدود المستحيل.
واليوم، نحن بحاجة لعبور جديد، لا نحو أرض محتلة، بل نحو وعي غائب كاد يضيع في زحمة الحياة اليومية.
لا يمكن لبلد صنع ملحمة أكتوبر أن يعيش على ذكراها فقط، بل يجب أن يعيش بمنطقها — منطق العمل الجماعي، والإيمان بالدولة، والانتصار في وجه الصعاب مهما تغيّر شكلها.
حرب اليوم ليست بالسلاح، بل بالعلم، بالإنتاج، بالإرادة التي ترفض أن تُهزم أمام الفقر أو الجهل أو التشتت.
في السنوات الأخيرة، بدأت بعض الدول الغربية، من بينها فرنسا وبريطانيا، تعيد قراءة وثائق الحرب من منظور جديد: كيف استطاعت مصر أن تحوّل الهزيمة إلى مدرسة في الإدارة والقرار؟
وفي المقابل، نحن بحاجة أن نعيد قراءة أنفسنا أيضًا — ليس كمنتصِرين فقط، بل كمن يحملون ميراثًا يجب الحفاظ عليه.
أكتوبر لم يكن لحظة في الماضي؛ كان وعدًا بأننا إذا توحدنا انتصرنا، وإذا انقسمنا خسرنا.
واليوم، مع كل تحدٍّ اقتصادي أو سياسي أو مجتمعي يواجه مصر، يبقى السؤال قائمًا: من سرق روح النصر؟
هل سرقها من خاف أن يقول الحقيقة؟ أم من ظن أن النصر يتحقق بالشعارات لا بالعرق؟
أم أننا ببساطة نسينا أن العبور لا يتوقف عند قناة السويس، بل يبدأ من داخل الإنسان نفسه؟
حين نُعيد روح أكتوبر للحياة، سنكتشف أن النصر لا يحتاج إلى معجزة جديدة، بل إلى صدق قديم.
وحين يصدق الجيل الجديد أن الوطن يستحق التضحية، عندها فقط يمكن القول إن أكتوبر لم يُسرق… بل عاد من جديد .