حصد المخرج اللبناني نيقولا خوري جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن فيلمه “ثريا حبي”، بعد أربع سنوات من فوزه بجائزتين عن فيلمه الأول “فياسكو”. يعكس هذا الفوز استمرار تألق خوري في تقديم أعمال سينمائية شخصية وعميقة تتناول قضايا وجودية وإنسانية معقدة.
يعتبر فيلم “ثريا حبي” استمراراً لنهج خوري في استكشاف الذات والذاكرة من خلال قصص الآخرين. الفيلم الوثائقي، الذي شارك في المسابقة الدولية للمهرجان، يروي قصة الحب المعقدة بين الفنانة ثريا بغداد والمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي، ويطرح أسئلة حول الغياب، والذاكرة، والهوية الشخصية.
“ثريا حبي”: فيلم وثائقي يتجاوز السيرة الذاتية
لا يقتصر فيلم “ثريا حبي” على سرد قصة حب تقليدية، بل يتجاوز ذلك إلى استكشاف أعمق للأزمة الوجودية التي عاشتها ثريا بغداد بعد رحيل زوجها. يركز الفيلم على محاولات ثريا للتوفيق بين حياتها كأرملة لمخرج مرموق، وبين رغبتها في الحفاظ على هويتها المستقلة ووجودها الخاص.
يعتمد خوري في فيلمه على أسلوب بصري وشعري مميز، حيث يمزج بين اللقاءات المباشرة مع ثريا، والمشاهد المؤثرة التي تعكس ذكرياتها وعواطفها، واللقطات الشعرية التي تضفي على الفيلم جواً من الغموض والتأمل. يستخدم المخرج تقنيات تسجيلية مبتكرة، مثل عرض مكالمات صوتية بينه وبين ثريا، لإضفاء المزيد من الواقعية والحميمية على الفيلم.
تظهر في الفيلم مخاوف ثريا من أن تُختزل حياتها في كونها أرملة مارون بغدادي، وأن تُحجب شخصيتها خلف ظله الكبير. تتحدث ثريا بصراحة عن صراعاتها الداخلية، وعن محاولاتها المستمرة للتخلص من هذا الظل، والعيش بحرية واستقلالية.
التركيز على الجانب الشخصي والوجودي
على الرغم من أن قصة مارون بغدادي مرتبطة بالسياق السياسي والاجتماعي اللبناني المضطرب في فترة الثمانينيات والتسعينيات، إلا أن خوري يختار التركيز على الجانب الشخصي والوجودي في حياة الفنانين. لم يسع الفيلم إلى التحقيق في ملابسات وفاة مارون بغدادي، بل ركز على تأثير غيابه على حياة ثريا، وعلى رحلتها في البحث عن معنى لوجودها.
تعتبر لقطة السيارة التي تجلس فيها ثريا بجانب مقعد فارغ، بينما تتجول في شوارع بيروت، من أبرز اللحظات الشعرية في الفيلم. في هذه اللقطة، يبدو مارون حاضراً في خيال ثريا، يتحدث إليها ويشاركها ذكرياتها، ويحاول الإجابة على أسئلتها المؤرقة. تُظهر هذه اللقطة قوة الحب والذاكرة، وقدرتهما على تجاوز حدود الزمان والمكان.
يستخدم خوري أرشيف مارون بغدادي، المكون من أوراق وملفات وصور وأشرطة سينمائية، كخلفية بصرية للفيلم، ولكنه لا يركز على محتوى هذا الأرشيف بقدر ما يركز على ردود أفعال ثريا تجاهه. يبدو الأرشيف بمثابة رمز للماضي الذي يلاحق ثريا، وللذكريات التي لا تستطيع الهروب منها.
الأسلوب التسجيلي الشعري
يتميز فيلم “ثريا حبي” بأسلوبه التسجيلي الشعري الذي يجمع بين الواقع والخيال، وبين الوثيقة الشعرية والتأمل الفلسفي. يستخدم خوري الموسيقى والصوت والإضاءة لخلق جو من الحميمية والشجن، ولإبراز العواطف والمشاعر التي تعيشها ثريا. يُضفي هذا الأسلوب على الفيلم طابعاً فنياً فريداً، ويجعله تجربة سينمائية مؤثرة ولا تُنسى.
يتجنب خوري السرد الزمني التقليدي، ويختار بدلاً من ذلك تقديم قصة ثريا ومارون من خلال مجموعة من الذكريات والمشاهد المتفرقة، التي تتداخل وتتشابك مع بعضها البعض. يُعزز هذا الأسلوب الشعري من قدرة الفيلم على استكشاف أعماق النفس البشرية، وعلى طرح أسئلة حول معنى الحياة والموت والحب والغياب.
في الختام، يمثل فيلم “ثريا حبي” إضافة هامة إلى السينما الوثائقية العربية، ويؤكد موهبة المخرج نيقولا خوري في تقديم أعمال سينمائية ذات رؤية فنية ومضمون إنساني عميق. من المتوقع أن يحظى الفيلم بمزيد من الجوائز والتقديرات في المهرجانات السينمائية القادمة، وأن يثير نقاشاً واسعاً حول قضايا الذاكرة، والغياب، والهوية الشخصية.

