شهد المسرح المكشوف بدار الأوبرا المصرية فعاليات خاصة ضمن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حيث استضافت المحاضرة التقديرية للمصور السينمائي الكبير محمود عبد السميع، والذي يكرمه المهرجان في حفل الختام. ركزت المحاضرة على حرفية الصورة السينمائية، واستكشفت الأسس الإبداعية والتقنية لتشكيل لغة الفيلم البصرية، وأهمية الموازنة بين الرؤية الفنية والوسائل التقنية الحديثة.
أدار الناقد السينمائي رامي المتولي هذا اللقاء الذي سلط الضوء على مسيرة عبد السميع المهنية الغنية، وتناول بالتفصيل خبراته في التعامل مع الإضاءة وتكوين المشاهد، وكيفية ترجمة الحالة الدرامية إلى صورة بصرية مؤثرة، مما يخدم البناء الفني للفيلم بشكل عام. وقد أثارت المحاضرة اهتماماً واسعاً من الحضور، بمن فيهم صناع الأفلام والطلاب والنقاد.
بدايات الشغف والتعامل مع العناصر البصرية
استرجع عبد السميع ذكريات طفولته، وكيف بدأت علاقته بالسينما من خلال التساؤل المستمر عن كل ما يراه على الشاشة، ومحاولة تقليده. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل قام بصنع كاميرا بدائية من مواد بسيطة، مما يعكس شغفه المبكر بهذا المجال. هذه التجارب شكلت بذرة الاهتمام التي نمت لتصبح مسيرة مهنية متميزة.
أكد عبد السميع على أهمية رؤية المكان والزمن بنفس القدر الذي يُعطى للممثل، معتبراً أن هذه العناصر هي جزء لا يتجزأ من الدراما، وتساهم بشكل كبير في تشكيل الصورة البصرية. وهذا النهج يمثل جوهر حرفية الصورة السينمائية التي يتبعها في عمله.
قراءة السيناريو وتحليل المشهد
شدد المصور السينمائي على أن قراءة السيناريو بعمق هي نقطة البداية الأساسية في عمله، وأن تدوين الملاحظات وتخيل الصورة قبل البدء بالتصوير أمر ضروري. وأشار إلى أن فهمه البصري العميق للمشهد كان يجعل بعض المخرجين يشعرون بأنه قد حلل المشهد بشكل كامل قبلهم.
واستذكر عبد السميع موقفاً فريداً، حيث لم يستعنه بعض المخرجين مرة أخرى، معتقداً أنهم لم يجدوا فيه من يقدم لهم رؤى جديدة، لأنه كان قد توصل بالفعل إلى فهم شامل للمشهد قبل التصوير. كما كشف عن فرصة ضاعت للعمل مع الفنان حسين فهمي في بداية مسيرته، نظراً لتغير خطط فهمي نحو الإخراج ثم التمثيل.
محطات بارزة في مسيرة عبد السميع
أشار إلى أن متابعة ردود فعل الجمهور في دور العرض كانت جزءاً مهماً من عمله، حيث كان يسعى إلى فهم مدى تأثير الصورة التي صاغها عليهم. واعتبر فيلم “امرأة متمردة” بطولة حسين فهمي من أهم التجارب في مسيرته المهنية، ووصفه بأنه علامة فارقة في مشواره.
كما توقف عند أهمية العلاقة المهنية التي جمعته مع مدير التصوير الراحل سعيد شيمي، الذي أثنى عليه في أحد كتبه، واصفاً إياه بأنه أول من “حرّك الصورة أمامه”. وروى تفاصيل تجربته في فيلم “التعويذة” وكيف تمكن من تجاوز التحديات التقنية باستخدام عدسة محدودة الإمكانيات لتحقيق رؤية المخرج.
التعاون مع المخرجين والابتكار في التصوير
أكد عبد السميع على أهمية وجود رؤية إبداعية لدى المخرج، مشيراً إلى أن المخرج الذي يفتقر للخيال لن يتمكن من تقديم عمل ناجح. واستعرض كواليس عمله مع المخرج رأفت الميهي في فيلم “للحب قصة أخيرة”، وكيف تمكن من حل مشكلة إضاءة باستخدام قطعة خشب سوداء لخلق تأثير بصري مبتكر.
وأشار إلى أن العمل مع مخرجين كبار مثل علي بدرخان وداوود عبد السيد ساهم بشكل كبير في تطوير مهاراته وصقل رؤيته الفنية. كما روى تجربته في تصوير فيلم “الجوع”، وكيف أثارت قدرته على “الإحساس بزمن الليل” إعجاب الناقد السينمائي الفرنسي مارسيل مارتال.
تجربة الجبهة وحلم متحف السينما المصرية
كشف عبد السميع عن إحدى أخطر محطات حياته المهنية، وهي تجربته في تصوير حرب الاستنزاف عام 1969، حيث وافق على السفر إلى الجبهة كـ”دور وطني” رغم وجود ثغرة قانونية تسمح له بالإعفاء من الخدمة العسكرية. وصف تلك الفترة بالتحدي الشديد، حيث واجه مخاطر حقيقية أثناء التصوير.
وفي نهاية المحاضرة، تحدث عبد السميع عن حلمه القديم بإنشاء متحف للسينما المصرية، والذي بدأ العمل عليه في التسعينيات. على الرغم من الجهود المبذولة، لم يتحقق الحلم حتى الآن، إلا أنه ما زال مصراً على المضي قدماً نحو تحقيق هذا الهدف. ويتوقع أن تستمر الجهود الدبلوماسية لإيجاد مقر مناسب وتحقيق هذا المشروع الثقافي المهم.
يبقى تكريم محمود عبد السميع في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي اعترافاً بمساهمته الكبيرة في إثراء السينما المصرية، وعرضاً لمسيرة مليئة بالإبداع والابتكار في مجال تصوير الأفلام. ومن المتوقع أن يساهم هذا التكريم في إلهام الأجيال الشابة من مصوري السينما، وتشجيعهم على تطوير مهاراتهم وصقل رؤيتهم الفنية.

