أكد العاهل المغربي محمد الخامس، اليوم الجمعة، إنه يتعين تحقيق العدالة الاجتماعية بشكل صارم، وينتظر من الحكومة والبرلمان وتيرة أسرع من التنمية، ولابد من تغليب مصلحة الوطن والمواطنين.

جاء ذلك في الوقت الذي يشهد فيه المغرب منذ أيام حراكاً اجتماعياً متصاعداً يصفه مراقبون بأنه الأوسع والأكثر زخماً منذ احتجاجات 2011. 

ويقوده جيل جديد من الشباب، أطلق على نفسه اسم “جيل زد 212″، خرج إلى الشوارع مطالباً بالصحة والتعليم والكرامة وفرص العمل، في وقت تستعد فيه المملكة لاستضافة كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030.

الاحتجاجات التي بدأت سلمية تحولت في بعض المناطق إلى مواجهات عنيفة أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، وتخريب ممتلكات عامة وخاصة. في المقابل، تؤكد الحكومة استعدادها للحوار والتجاوب مع المطالب الاجتماعية، وسط تساؤلات عميقة حول ترتيب الأولويات الوطنية.. هل يُمكن أن تسبق الملاعب المستشفيات والمدارس؟

احتجاجات.. بلا عنف ولكن بقلق

وتميزت المظاهرات في بعض المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء وطنجة وتطوان بطابع سلمي واضح.

جاء بعد توترات عنيفة أودت بحياة ثلاثة أشخاص، وأدت إلى إصابة المئات من المتظاهرين وعناصر الأمن. المشهد الهادئ نسبياً بعث رسالة مزدوجة: الشارع ما زال مصرّاً على إيصال صوته، والدولة تبدو حريصة على تفادي الانزلاق إلى مواجهات دامية جديدة.

شعارات تكشف جوهر الأزمة

ولم تقتصر الشعارات على المطالبة بفرص عمل وتحسين الخدمات الاجتماعية، بل ارتفعت أصوات تدعو إلى “ربط المسؤولية بالمحاسبة”.

هذا الخطاب يعكس وعياً متزايداً لدى الشباب بضرورة إصلاح بنية الحكم والإدارة، وليس مجرد تحسين ظرفي للمعيشة.

أحد الشعارات الأكثر تداولاً كان: “مبغيناش كأس العالم.. الصحة أولاً”. جملة قصيرة، لكنها تحمل دلالات عميقة: رفض تحويل التنمية إلى مشاريع واجهة تخفي واقعاً اجتماعياً هشاً، وتأكيد أن الأولويات تبدأ من الحق في الصحة والتعليم والعمل قبل أي بريق رياضي عالمي.

الحكومة تحاول امتصاص الغضب

وفي مواجهة هذا الحراك، سعت الحكومة إلى تقديم خطاب مطمئن. المتحدث الرسمي مصطفى بايتاس أكد أن السلطات “تفاعلت منذ البداية بشكل مسؤول مع المطالب الاجتماعية”، مبرزاً استعدادها للدخول في “حوار جاد ومسؤول”.

رئيس الحكومة عزيز أخنوش شدد بدوره على أن الأغلبية الحكومية “مستعدة كلياً للحوار والنقاش داخل المؤسسات والفضاءات العمومية”. وأعرب عن تفهمه للمطالب الشبابية، معبّراً عن أسفه لسقوط ضحايا في الأحداث الأخيرة.

لكن خطاب الحكومة ترافق مع تحذير من الانزلاق إلى العنف. فقد أكد أخنوش أن حماية الأمن والنظام العامين تظل أولوية، مشيداً بأداء الأجهزة الأمنية التي وُجهت لها اتهامات باستخدام القوة المفرطة في بعض الحالات.

وزارة الداخلية تكشف أرقاماً صادمة

أحدث بيانات وزارة الداخلية أظهرت حجم التعقيد الذي تواجهه السلطات. فقد أعلنت أن الاحتجاجات أسفرت عن:

3 قتلى بين المحتجين.

640 مصاباً بينهم 589 من عناصر الأمن.

تخريب وإحراق 271 عربة تابعة للقوات العمومية و175 سيارة للخواص.

أضرار لحقت بـ80 مرفقاً عاماً وخاصاً، بينها إدارات، مستشفيات، وكالات بنكية، ومحلات تجارية في 23 إقليماً.

الوزارة أوضحت أيضاً أن 70% من المشاركين في المظاهرات كانوا من القاصرين، كثير منهم استخدموا الحجارة والأسلحة البيضاء وأضرموا النيران في إطارات السيارات. هذا المعطى يثير تساؤلات حول الأبعاد الاجتماعية العميقة للأزمة، إذ يظهر أن فئة المراهقين والأحداث هي الأكثر انخراطاً في هذا الحراك، ما يعكس شعوراً مبكراً بالحرمان والتهميش.

وهذه الاحتجاجات التي انطلقت سلمية قبل أن تتحول إلى مواجهات عنيفة في بعض المدن، وضعت الدولة أمام سؤال جوهري.. هل الأولوية لبناء الملاعب وتنظيم التظاهرات الرياضية الكبرى، أم لإصلاح القطاعات الحيوية التي تلامس حياة المواطن اليومية، وعلى رأسها الصحة والتعليم؟

أزمة أولويات وليست أزمة حدث

ويؤكد الخبير الاستراتيجي اللواء نبيل السيد أن ما يجري في المغرب ليس مجرد غضب مرتبط بتنظيم كأس إفريقيا 2025 أو كأس العالم 2030، بل هو انعكاس لأزمة أعمق تتعلق بترتيب الأولويات الوطنية. فالشباب اليوم يطالبون الدولة بمعادلة واضحة.. التنمية ليست ملاعب ومشاريع ضخمة فقط، بل مستشفيات، مدارس، وفرص عمل تحفظ الكرامة.

بعد اجتماعي وسياسي جديد

والحراك الحالي يختلف عن موجة 2011. فالشباب هذه المرة أكثر تنظيمًا، يستندون بقوة إلى وسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتعبئة السريعة وتوحيد الخطاب.

وهذا الجيل يتقن فن صناعة الشعارات المؤثرة التي تنتشر بسرعة عبر الفضاء الرقمي، وهو ما يمنح الحركة زخماً أكبر ويجعلها أكثر خطورة من حيث الانتشار الأفقي بين المدن والمناطق.

وتبرز في هذا السياق الفجوة القديمة الجديدة بين “المغرب النافع” حيث تتمركز التنمية في المدن الكبرى، و”المغرب غير النافع” حيث يعاني سكان القرى والهامش من نقص الخدمات وفرص العيش الكريم.

الدولة بين معادلة الأمن والاستجابة

السلطات تجد نفسها اليوم أمام معضلة مزدوجة.. حماية الأمن والنظام من جهة، وضمان حق المواطنين في التعبير والاحتجاج السلمي من جهة أخرى.

والأرقام الكبيرة للإصابات والتخريب تجعل أي حكومة حذرة في التعاطي مع الشارع. لكن التشدد الأمني وحده لا يكفي، بل قد يزيد الأمور تعقيداً. المطلوب هو مسار يوازن بين الاستجابة الاجتماعية والضبط الأمني، بما يمنع تحول الاحتجاجات إلى فوضى أو إلى حالة فقدان ثقة شاملة بالمؤسسات.

المخاطر المستقبلية

ويحذر الخبير نبيل السيد من أن تجاهل المطالب الأساسية للشباب قد يكون مكلفاً.

فالصحة والتعليم والتشغيل ليست مجرد شعارات، بل ملفات تمس جوهر العلاقة بين الدولة والمجتمع.

مع استمرار ضخ مليارات الدراهم في مشاريع الملاعب والفنادق قد يمنح المغرب صورة دولية براقة، لكنه لن يُقنع الشارع الغاضب إذا لم يقترن بتحسين ملموس في حياة الناس اليومية. وهنا يكمن خطر فقدان الثقة في المؤسسات، وهو ما قد يفتح الباب أمام موجات احتجاجية أشد وأوسع.

فرص الإصلاح والحوار

ورغم قتامة المشهد، يرى الخبير أن الأزمة تحمل في طياتها فرصة تاريخية. إذ يمكن للدولة أن تحول الاحتجاجات إلى لحظة مراجعة وطنية شاملة.
إطلاق حوار وطني يشارك فيه الشباب، النقابات، والمجتمع المدني قد يكون مدخلاً لتخفيف الاحتقان. لكن الحوار وحده لا يكفي، بل يجب أن يترافق مع خطة عاجلة لإصلاح المستشفيات، تطوير التعليم، وتوفير فرص عمل للشباب الباحث عن الأمل.
إنها لحظة اختبار حقيقية للحكومة.. إما أن تستثمر الغضب الشعبي كفرصة لإعادة ترتيب أولوياتها، أو أن تواجه خطر انفجار اجتماعي أكبر في المستقبل.

 

الاحتجاجات التي يقودها “جيل زد” في المغرب ليست مجرد غضب عابر ولا رفض لكرة القدم أو التظاهرات الرياضية. إنها رسالة قوية مفادها أن التنمية لا تختزل في الملاعب والفنادق، بل تبدأ من المستشفى والمدرسة وفرصة العمل.
اليوم يقف المغرب أمام معادلة دقيقة.. بين بريق المونديال وصوت الشارع الغاضب، بين صورة دولية لامعة وحياة يومية تطالب بحلول عاجلة.
القرار هنا لا يحدد فقط مسار الحكومة الحالية، بل قد يرسم ملامح العقد الاجتماعي الجديد بين الدولة وشبابها، عقد أساسه العدالة الاجتماعية والكرامة والإنصات الحقيقي لصوت الجيل الجديد.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version