في تاريخ الأمم، ثمة لحظات تُعيد رسم ملامح الوعي الوطني، وتفتح أبواب المستقبل على اتساعها، ومن بين تلك اللحظات، تبرز قصة المتحف المصري الكبير، الحلم الذي بدأ بفكرة غاضبة في عقل فنان، وتحوّل إلى مشروع وطني ضخم تحقق على أرض الواقع بإرادة القيادة السياسية.

قصة فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق والفنان التشكيلي الكبير، مع المتحف المصري الكبير بدأت بحلم بإنشاء متحف يليق بعظمة مصر، وانطلقت رحلة الحلم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حتى تحول إلى واقع ملموس في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تبنّى المشروع ووجه بإتمامه على أعلى مستوى، ليصبح المتحف الأكبر في العالم لحضارة واحدة.

إحباط في التحرير.. وبداية الشرارة الأولى

ويروي فاروق حسني في تصريحات خاصة لـ«صدى البلد»، قائلا: كانت البداية من شعور بالإحباط الحقيقي.. كنت أزور المتحف المصري في ميدان التحرير وأخرج مصابًا بالصداع من شدة الفوضى والزحام البصري، كمبدع، لم أحتمل أن تُعرض كنوزنا بهذا الشكل.. ومن هذا الإحباط، وُلدت فكرة بناء متحف جديد يليق بعظمة الحضارة المصرية”.

كانت تلك اللحظة الأولى التي خرجت فيها الفكرة من رحم الألم، حين قرر فنان أن يحوّل وجعه الوطني إلى مشروع حضاري.

استفزاز في باريس أشعل الحلم

ويتابع حسني، قائلا: “خلال لقاء مع أحد الأصدقاء في باريس، سألني ساخرًا: (أنتم بتعملوا إيه في المخزن الكبير بتاعكم؟) وكان يقصد المتحف المصري في التحرير.. غضبت، ورددت فورًا: (إحنا بنبني أكبر متحف في العالم بجوار الأهرامات)، رغم أن الفكرة لم تكن مطروحة بعد.. لكنها كانت الكلمة التي غيرت التاريخ”.

كانت تلك الجملة الغاضبة الشرارة التي أطلقت الحلم من القيود، لتتحول السخرية إلى إعلان ولادة مشروع سيغيّر وجه الثقافة المصرية إلى الأبد.

مبارك يسأل: “منين يا فاروق؟”.. والرد كان: “الأعمال العظيمة تجد تمويلاً”

وعند عودته إلى القاهرة، عرض فاروق حسني الفكرة على الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي استمع باهتمام وقال له: “وهتعمله إزاي يا فاروق؟ وتجيب فلوس منين؟”، فرد الوزير بثقة الفنان المؤمن بمشروعه: “الأعمال العظيمة تجد تمويلاً يا ريس.”

وبعد أيام قليلة، اصطحب الرئيس مبارك ومعه المشير حسين طنطاوي الوزير إلى منطقة الأهرامات، وهناك قال فاروق حسني: “هي دي يا ريس.. هنا لازم يكون المتحف”، ومن تلك اللحظة، بدأت الرحلة الرسمية للحلم.

سنوات الدراسات والتمويل الدولي

وانطلقت الدراسات الفنية والهندسية للمشروع، إذ أجرت إيطاليا دراسة جدوى استغرقت أربع سنوات بتكلفة بلغت خمسة ملايين دولار، وضعت من خلالها الخطوط المعمارية للمبنى.

وجاءت بعدها اليابان لتقدم قرضًا قيمته 300 مليون دولار دعمًا للمشروع، إدراكًا منها لأهمية هذا الصرح الحضاري الفريد.

ويقول فاروق حسني: “الحضارات العظيمة تتفاهم وتتقاطع، واليابانيون شعروا أن دعمهم لمصر هو دعم للإنسانية كلها.. لقد فهموا أن الحضارة المصرية ليست مجرد تاريخ، بل أساس من أسس الوعي الإنساني”.

مدينة ثقافية وليست متحفًا فقط

ولم يكن هدف فاروق حسني إنشاء مبنى أثري فقط، بل مدينة ثقافية متكاملة، ويقول: “كنت أريد أن يكون المتحف مؤسسة حضارية تشمل قاعات تعليمية ومراكز بحثية ومكتبة وسينما ومسرحًا.. أردته فضاءً مفتوحًا للحوار بين الإنسان والماضي، بين العلم والفن، بين الذاكرة والرؤية المستقبلية”

كانت رؤيته أن يصبح المتحف رسالة مصر إلى العالم، يُعيد تعريف علاقتنا بالحضارة لا بوصفها تراثًا جامدًا، بل وعيًا حيًا متجددًا.

السيسي يحقق الحلم.. ويُكمل الرسالة

وبعد سنوات من التوقف والتحديات السياسية والاقتصادية التي واجهت مصر في العقد الأول من الألفية الجديدة، جاء عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي ليُعيد الحياة إلى المشروع من جديد، ويقول فاروق حسني بامتنان واضح: “الرئيس السيسي هو من حقق الحلم فعلاً.. ما بدأناه كفكرة أصبح واقعًا بفضل إرادته الصلبة ورؤيته العميقة لأهمية الثقافة في بناء الدولة الحديثة.. لقد وضع المتحف على رأس أولويات الدولة، ووجّه بإنهائه بأعلى المعايير العالمية”.

ويضيف: “ما فعله الرئيس السيسي يتجاوز فكرة افتتاح متحف، لقد جعل من المشروع رسالة وطنية للعالم تقول إن مصر لا تكتفي بحماية آثارها، بل تقدمها للعالم في أبهى صورها.. هذا المشروع يمثل كرامة مصر الثقافية أمام العالم كله”.

الواقع يتجاوز الحلم

وعندما اكتمل المتحف الكبير، زاره فاروق حسني وشاهد بعينيه ما كان بالأمس فكرة على الورق، يقول بتأثر: “عندما دخلت المتحف ورأيت البهو الزجاجي والأهرامات في الخلفية، شعرت أن الواقع تجاوز الحلم.. قلت لنفسي: ده مش مبنى.. دي مصر وهي بتتنفس من جديد.”

إنها لحظة اكتمال دائرة الرؤية؛ من فنان غاضب في التسعينيات، إلى رئيس دولة أعاد للأمة مشروعها الحضاري الأكبر.

المتحف الكبير.. حوار بين الماضي والمستقبل

ويرى فاروق حسني أن المتحف المصري الكبير لم يعد مشروعًا لشخص أو وزارة، بل مشروع كرامة وطنية وحضارية لمصر كلها: “هذا المتحف ليس مجرد مكان لعرض الآثار، بل حوار بين الماضي والمستقبل، وتجسيد لفكرة أن مصر لا تزال هنا، تقود الذاكرة الإنسانية من جديد.”

ويتابع: “حين يرى الزائر تمثال رمسيس الثاني في بهو المتحف، يشعر أنه يدخل في حضرة التاريخ، لكنه في الوقت نفسه يعيش تجربة معمارية وإنسانية حديثة.. هذه هي مصر التي أردنا أن نقدمها للعالم: ماضيها خالد، وحاضرها يليق بعظمتها”.

من حلم فنان إلى إنجاز دولة

من إحباط في متحف التحرير، إلى إنجاز عالمي عند سفح الأهرامات، تمتد قصة المتحف المصري الكبير كرحلة وعي وكرامة، هي قصة فنان بدأ الحلم، ورئيس أنهى الرسالة، قصة مصر التي لا تتوقف عن بناء المعنى، مهما تغيّرت الأجيال والأنظمة.

ويقول فاروق حسني في ختام حديثه: “حين يسجّل التاريخ من بنى المتحف الكبير، سيكتب أنه بدأ بفكرة من فنان، لكنه تحقق بإرادة دولة يقودها رئيس آمن أن الثقافة هي ركيزة المستقبل.. هذا المتحف هو مصر وهي تستعيد صوتها أمام العالم.”

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version