في قلب كل خريطة تتكثّف الأسطورة حين تصبح سلاحًا وفي قلب كل سلاح يسكن نصٌّ قديمٌ جُرِّد من روحه ليُستثمر في مشروع اقتلاع طويل. 

ذلك هو حال فلسطين، الأرض التي لم تكن يومًا صحراء تنتظر الغزاة ولا صفحة بيضاء تنتظر من يكتب التاريخ، بل كانت وما زالت أرضًا مأهولة بالناس والحكايات والدم.

وفي هذا الموضع تحديداً يفرض السؤال نفسه ، فأجدني أتساءل فلسطين أرض من؟ أكثر من مجرد استفسار جغرافي أو سياسي إنه سؤال أخلاقي وإنساني يختبر حدود الرواية ويكشف أبعاد العدالة والحق في وجه رواية استُخدمت كأداة مشروعة للإستعمار والتهجير. هذا السؤال يستدعي النظر إلى فلسطين كمكان حيّ فيه تلاقي الأجيال وتتشابك التجارب ويتجذر الوعي الجمعي بين الأرض والإنسان.

سؤال “فلسطين أرض من؟” لم يكن يومًا سؤالًا جغرافيًا بل سؤالًا في الأخلاق والسياسة والدين والحق. إن محاولة الصهيونية تقديم فلسطين كأرض بلا شعب لشعب بلا أرض هو جوهر الكذبة المؤسسة التي تم بناء المشروع الإستيطاني عليها، وهذه الكذبة – التي بدأت بنصوص وتأويلات توراتية – ما لبثت أن تحوّلت إلى وقائع على الأرض ترسمها الدبابات وتباركها “الوعود الإلهية” حسب الرواية الصهيونية الحديثة.

وهنا ، يمكن القول إن تحويل النصوص الدينية إلى أدوات سياسية ليس ظاهرة جديدة في التاريخ البشري، لكن ما يميز الحالة الفلسطينية هو مزيج الإستعمار الحديث مع التأويل الديني القديم مما أوجد أرضية لنزاع طويل الأمد بين الحق التاريخي للشعب الفلسطيني والرواية الصهيونية المبنية على تفسير انتقائي للنصوص التوراتية.

وعلي هذا الأساس لابد من تفكيك الأسطورة حيث تزعم الرواية الصهيونية أن الله وعد بني إسرائيل بأرض كنعان أي فلسطين حالياً ، بناءً على نصوص توراتية داخل العهد القديم مثل:

> “לְזַרְעֲךָ אֶתֵּן אֶת הָאָרֶץ הַזֹּאת”
“لنسلكَ أعطي هذه الأرض” (سفر التكوين 12: 7) .

غير أن معظم الباحثين النقديين في العهد القديم بمن فيهم يهود معاصرون يشيرون إلى أن هذه النصوص لا يمكن اعتبارها صكوك ملكية تاريخية، بل هي تعبيرات لاهوتية تعكس تطلعات كهنة ما بعد السبي البابلي، ولكن اليهود قاموا بتفسيرها تفسيراً خاطئاً تبعاً لأهواءهم ومعتقداتهم الشخصية التي لا أساس لها من الصحة .

كما أن الأدلة الأثرية تشير إلى أن الفلسطينيين القدماء بما في ذلك الكنعانيون واليبوسيون والفلسطينيون شكلوا حضارة مزدهرة ومتنوعة على طول الساحل الشامي والداخل الفلسطيني قبل ظهور بني إسرائيل، بل وحتى قبل كتابة نصوص سفر التكوين نفسه.
وعليه ، لابد أن أشير إلي نقطة في غاية الأهمية أن هذه النصوص التي يعتمد عليها اليهود تفضح البناء الأسطوري المزوّر الذي أقاموا عليه الرواية الإسرائيلية لينسبوا لهم حق ليس لهم من الأساس.

وفي هذا السياق ، تنكشف آليات التزييف التي اعتمدها المشروع الصهيوني .

هذه الحقائق توضح أن الأرض كانت مأهولة ومنظّمة إجتماعيًا بما يجعل الإدعاء بأن الأرض “فارغة” رواية غير دقيقة تاريخيًا.

وما بين الرواية التوراتية التي تتحدث عن “أرض الميعاد” والرواية الفلسطينية التي تتحدث عن “النكبة” يتصارع خطابان ، خطاب يبرّر الإحتلال باسم الوعد الإلهي، وخطاب يطالب بالعدالة باسم التاريخ والإنسان.

وفي مقال نشرته صحيفة هآرتس العبرية يعترف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه بأن “تاريخ إسرائيل الرسمي بُني على الإنكار؛ إنكار وجود الفلسطيني، وإنكار نكبته وإنكار شرعية كفاحه أيضاً”. 
وهذا يعكس الصراع بين الرواية الرسمية للدولة الصهيونية التي تحاول رسم تاريخ انتقائي يخدم المشروع السياسي وبين الحقيقة التاريخية التي تمثلها الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني.

كما أن السرديات المتضادة ليست مجرد خلاف أكاديمي أو سياسي، بل هي انعكاس للصراع على الهوية والوجود. كل رواية تحمل أدواتها الرمزية سواء كانت نصوص دينية، صورًا فوتوغرافية، أو شهادات لذكريات محلية. والفلسطينيون من خلال نكبتهم وحياتهم اليومية يؤكدون وجودهم وحقهم في الأرض، بينما يحاول المشروع الإستيطاني تحويل النصوص المقدسة إلى صكوك ملكية سياسية.

وأؤكد أن فلسطين ليست قضية عقار ، بل قضية إنسان ، ولا يمكن اختزال فلسطين في نزاع حدودي أو في عقار متنازع عليه. فلسطين هي المكان الذي يحمله كل لاجئ في جيبه وتحتفظ به كل أم فلسطينية في اسم ابنها، وتحفره كل شجرة زيتون في جذعها.

هي الأرض التي تستمد شرعيتها لا من سفر الخروج، بل من الواقع المتجذر منذ آلاف السنين، من المآذن التي سبقت المستوطنات، ومن الكنائس التي عايشت العهد القديم دون أن تعترف بالإستعمار باسم الرب.

الأرض هنا ليست مجرد مساحة جغرافية، بل ذاكرة حيّة تجمع بين الماضي والحاضر، بين الهوية والإنتماء، بين الحق والواجب. هذا البُعد الإنساني هو الذي يجعل النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي أكثر تعقيدًا من أي نزاع عقاري أو سياسي تقليدي.

في نهاية المطاف، تبقى الحقيقة واضحة رغم كل التشويش و الإدعاءات الكاذبة. فلسطين أرض شعبها الفلسطيني الذي سكنها وعمّرها، وكتب تاريخه فيها بالدم والزيتون والتراب.

قد تكون الرواية الصهيونية قد ربحت جولات في الإعلام والسياسة، لكنها تخسر يومًا بعد يوم في محكمة التاريخ وضمير الشعوب لأن الإحتلال مهما تسلّح بالنصوص يبقى إحتلالًا ولأن الأرض لا تُمنح بالوعد بل تُكتسب بالوجود.

أكتب وأنا على يقين أنّ المشروع الصهيوني قد ارتكز منذ بداياته على الأسطورة لا على الحقيقة.
إنّ المشروع الصهيوني بُني منذ بداياته على أساطير مصطنعة وروايات مختلقة أراد بها أن يمنح نفسه شرعية فوق أرض ليست له، فاستند إلى سرديات دينية محرفة وأسطورية لإقناع العالم بأنّ فلسطين “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. غير أنّ الواقع والتاريخ يفضحان هذا الإدعاء. ففلسطين كانت وما زالت حية بأهلها وثقافتها وحضارتها الممتدة عبر العصور. ومن هنا فإنّ مواجهة هذه الأسطورة لا تكون بخطاب استجداء، ولا بانتظار إنصاف من قوى لم تعرف يومًا معنى العدالة، بل بالفعل المقاوم الذي يطيح بالزيف ويثبت أنّ الحق التاريخي لا يسقط بالتقادم ولا يُستعاض عنه بتعويضات أو تسويات واهية. 
إنّ فلسطين بما تحمله من ذاكرة وهوية هي الحقيقة الباقية في وجه الأسطورة، والواقع الذي يقهر الوهم مهما طال عمر الإحتلال.
والحق التاريخي لا يُستجدي بل يُستعاد.

ولنا لقاء آخر نستكمل فيه خيوط هذا الحديث في مقالات قادمة لنكشف الحقيقة المستترة لليهود خلف النصوص التوراتية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version