تمثل الوثائق العسكرية الرسمية ذاكرة الأمم وإرثها الاستراتيجي، حيث تتحول من أوراق سرية محفوظة في الأرشيف إلى روايات تاريخية تحكي قصص البطولة وعبقرية التخطيط، وتشكل الوعي الجمعي للأجيال. وفي ذكرى مرور اثنين وخمسين عاماً على حرب أكتوبر 1973، يطفو على السطح أهمية الإرث الوثائقي الذي تحمله الأرشيفات السرية، بما تحويه من أوراق متفجرة بالحقائق والمفاجآت التي تروي أدق وأخطر تفاصيل المعارك والبطولات. لأنها روايات حية تتصارع على شرعية التاريخ، لذلك تدرك الدول أن الإفراج عن الوثائق استمرار للحرب بوسائل أخرى، كما تسقط هذه الوثائق شرعية أو تمنحها، وتبرر هزيمة أو تخلد انتصاراً.
شكلت مصر لجنة متخصصة من قدامى القادة العسكريين الذين شاركوا في الحرب لمراجعة الوثائق، قامت هذه اللجنة بفحص 37,667 وثيقة بالإضافة إلى 5,000 صورة، وتم تصنيفها إلى ثلاث مجموعات حسب درجة سريتها وأهميتها وتأثيرها على الأوضاع الحالية والمستقبلية للدولة. وحرصت اللجنة على حماية الأمن القومي المصري مع السماح بنشر ما يمكن أن يعزز الفخر الوطني، فتم تقسيم المواد القابلة للنشر إلى ثماني مراحل رئيسية تبدأ من نهاية حرب 1967 حتى الدروس المستفادة.
في المقابل، أفرجت إسرائيل عن 3,308 وثائق فقط (1,400 وثيقة ورقية والباقي صور ونصوص منقولة) من أرشيف الاحتلال الإسرائيلي. والأهم من العدد، أن إسرائيل تتجنب نشر الوثائق المحرجة، حيث لم ينشر من تقرير “أجرانات” – التقرير الرسمي الذي يوثق إخفاقات الحرب – سوى 42 صفحة من أصل 1,813 صفحة. علماً بأن هذه اللجنة أسفرت عن إقالة رئيس الأركان دافيد إليعازر ورئيس الاستخبارات العسكرية وقائد الجبهة الجنوبية.
منهجان متباينان في التعامل مع الأرشيف
تميز الإفراج المصري عن وثائق حرب أكتوبر بالشمولية والتنظيم، حيث كشفت لأول مرة الوثائق المصرية التخطيط الاستراتيجي للحرب الذييرقى إلى أعلى درجات الفكر العسكري العالمي، كما تضمنت تفاصيل “العملية جرانيت 2” التي كانت تهدف إلى احتلال المضائق الجبلية في سيناء . وقد حرصت مصر على تقديم رواية متكاملة تظهر إنجازات الجيش وتضحيات الشعب، مع الحفاظ على الأسرار التي لا تزال ذات حساسية أمنية.
وفي سبتمبر 2023، أفرجت إسرائيل عن أرشيفها السري الكامل لحرب أكتوبر بعد 50 عاماً على اندلاعها . لكن هذا الإفراج كان انتقائياً بحسب المراقبين، حيث تشير التقارير إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قرر في السابق عدم نشر هذه المواد رغم جهود باحثين إسرائيليين طالبوا بالإفراج عنها . كما أن إسرائيل لم تفرج سوى عن 42 صفحة فقط من أصل 1,813 صفحة من تقرير “أجرانات” الشهير الذي يحمل تحقيقات مفصلة حول إخفاقات الحرب . هذه الانتقائية تكشف عن محاولة إسرائيلية لحماية الرواية الصهيونية التي تزعم التفوق الدائم، وتجنب الإحراج الناتج عن كشف حجم الإخفاقات الاستخباراتية والعسكرية.
توقيت النشر والرسائل السياسية
يأتي توقيت الإفراج عن الوثائق في وقته تماما ، ففي فبراير 2024، نشرت مصر بعض وثائق حرب أكتوبر في لحظة إقليمية بالغة الحساسية، لحظة خطيرة يشهد العدوان الإسرائيلي على غزة تصعيداً غير مسبوق، وتتصاعد التصريحات الإسرائيلية حول إجبار الفلسطينيين على النزوح إلى سيناء. بالتالي يمثل نشر الوثائق رسالة ردع للجانب الإسرائيلي، وتذكيراً بالقدرات المصرية التي أثبتت جدارتها في الماضي، ويمكنها بالتالي إعادة الكرة اليوم.
فيما تشير الدراسات الإسرائيلية إلى أن الإفراج عن وثائق حرب أكتوبر جاء في إطار اعتبارات داخلية تتمثل في استخلاص الدروس المستفادة من الحرب، خاصة في ظل ما تواجهه إسرائيل حالياً من تهديدات إقليمية متعددة . كما أن مرور نصف قرن كامل على ذكرى الحرب يعد وقتاً كافياً لاستخلاص الدروس برأي المراكز البحثية الإسرائيلية، بعد أن حالت الاعتبارات السياسية والأيديولوجية دون تحقيق الموضوعية في التحقيقات السابقة . لكن يبقى هذا الإفراج انتقائياً يهدف إلى حماية الرواية الإسرائيلية وتقديم صورة مزيفة عن التفوق الدائم.
صناعة المفاجأة والخداع الاستراتيجي
تكشف الوثائق المصرية عن جانب بالغ الأهمية من إعدادات الحرب يتمثل في خطة “الخداع الاستراتيجي” التي انتهجها الرئيس الراحل أنور السادات . فقد أشارت الوثائق إلى إجراءات الخداع الاستراتيجي المقترحة للعمليات الاستراتيجية والتعبوية لتحرير الأراضي المحتلة في جبهتي مصر وسوريا، عبر مجموعة من الوسائل شملت: “تنشيط الحراك السياسي والدبلوماسي لترجيح الحلول السلمية، وإظهار التناقضات في الجبهة العربية بالقدر اللازم فقط، الذي لا يضر بالعلاقات الحقيقية للدول العربية أو العمليات المشتركة” .
ومن أبرز المفاجآت التي كشفت عنها الوثائق قصة الطائرة المصرية التي اخترقت المجال الجوي لمدينة تل أبيب وهددت مقر وزارة الدفاع والأركان الإسرائيلية بشكل مباشر، مما أضاء جميع الأنوار الحمراء في العالم خلال ذلك اليوم المشهود . فطبقاً لتفاصيل يومية الحرب، كلفت طائرة مصرية قاذفة استراتيجية ثقيلة من طراز “توبوليف TU16” بمهمة شديدة الخطورة لم يعلن عنها نهائياً في مصر من قبل، خطط لها الرئيس محمد أنور السادات بنفسه مع قائد سلاح الجوي اللواء حسني مبارك، وهدفت إلى قصف مبانى وزارة الدفاع والقيادة والأركان وغرفة العمليات الإسرائيلية الرئيسية فى قلب مدينة تل أبيب .
حرب أكتوبر في الأدب والرواية
كانت الروايات والأعمال الأدبية ساحة موازية لتسجيل وتمحيص أحداث الحرب، حيث قدمت زوايا نظر متعددة، بين البطولة والتضحية والنقد الاجتماعي. منها رواية “الرفاعي” لجمال الغيطاني (1978) التي تؤرخ لبطولات إبراهيم الرفاعي مؤسس وقائد المجموعة 39 قتال . ورواية “العمر لحظة” ليوسف السباعي التي تحكي عن بطولات الجيش المصري خلال حرب الاستنزاف وحتى انتصارات أكتوبر، وخاصة معركة شدوان .
ومن أبرز الروايات التي تناولت الحياة المصرية قبيل وخلال حرب 1973 رواية “الحرب في بر مصر” ليوسف القعيد التي صدرت عام 1978 وتم اختيارها ضمن أفضل مائة رواية عربية . كما قدمت رواية “الرصاصة لا تزال في جيبي” لإحسان عبد القدوس صورة عن حال المجتمع المصري منذ نكسة 1967 وحتى انتصار أكتوبر 1973، وسلطت الضوء على الفساد الذي انتشر وكان سببا في الهزيمة، وكيف تغيرت حياة المصريين وتبدلت أحوالهم من الهزيمة إلى تحقيق النصر .
تدويل الحرب وأبعادها الإقليمية
تميزت حرب أكتوبر بمشاركة عربية غير مسبوقة، حيث وقفت مجموعة من الدول العربية في تكتل لا مثيل له سواء قبل أو بعد 1973 . من أبرز صور هذا الدعم ما قدمه المغرب الذي أرسل قواته إلى الجبهة السورية في الجولان قبل عشرة أشهر من انطلاق الحرب، كما أرسل وحدات عسكرية إلى جبهة سيناء المصرية . كما شاركت قوات من العراق والجزائر والسودان والكويت والسعودية في القتال على الجبهتين المصرية والسورية .
وتكشف الوثائق أن معركة أكتوبر كانت حرباً بالوكالة بين القوتين العظمى في ذلك الوقت، حيث كان “الجسر الجوي” الأمريكي لإسرائيل هو العامل الذي قلب الموازين العسكرية في الميدان . فالولايات المتحدة أمدت إسرائيل بجسر جوي ضخم بلغ إجمالي ما نقل عبره 27,895 طناً، في حين مد الاتحاد السوفيتي جسراً جوياً لكل من مصر وسوريا بلغ إجمالي ما نقل عبره 15,000 طن إضافة إلى نحو 63,000 طن من الأسلحة عن طريق البحر .
النصر صناعة وطنية شاملة
المتأمل في الرواية المتكاملة لحرب أكتوبر، سوف يستخرج عدة خلاصات أساسية أهمها أن النصر كان ثمرة لإرادة سياسية، وتخطيط استراتيجي علمي، وخداع محكم، وتضحية شعبية، وعقل عسكري مبدع تمثل في عبقرية الخداع الاستراتيجي. وأن حرب أكتوبر كانت نموذجاً لتحول مجتمعي كامل من حالة الإحباط بعد نكسة 1967 إلى الثقة بالقدرة على صنع النصر.
كما تمثل عملية الإفراج عن الوثائق معركة موازية في حرب الوعي، فإسرائيل، بإخفائها لتقرير أجرانات، تحاول حماية الرواية الصهيونية التي تزعم التفوق الدائم، بينما تمثل مصر، بنشرها للوثائق، رواية الحق التي تثبت أن إرادة الشعوب أقوى من أعتى الجيوش. وأن هذه المعركة على الرواية التاريخية تشكل الوعي الجمعي للأجيال القادمة، وتؤسس لهوية وطنية قائمة على الثقة بالنفس والإيمان بالقدرة على صناعة المصير.
أيضا تكشف وثائق أكتوبر عن درس بالغ الأهمية وهو أن النصر لا يصنعه السلاح وحده، فإسرائيل، رغم تفوقها التكنولوجي والدعم الدولي غير المحدود، وصلت إلى حافة الانهيار في الأيام الأولى للحرب. بينما اعتمدت مصر على القوة المعنوية المتمثلة في الإيمان بعدالة القضية، والوحدة الوطنية بين الشعب والجيش، والإرادة السياسية التي رفضت الاستسلام للواقع. هذه الدروس تظل صالحة للتطبيق في مواجهة التحديات المعاصرة، كمرآة للحاضر وبوصلة للمستقبل.
في النهاية، تعتبر الوثائق الضمير النابض بالحياة بالنسبة للتاريخ الذي يخاطب الحاضر كما يروي الماضي. فبينما تحاول إسرائيل تزييف الرواية، تقدم مصر روايةواضحة شفافة تثبت أن النصر كان ثمرة إرادة شعب، وتخطيط قيادة، وتضحية جندي. وبالتالي فإن عظمة حرب أكتوبر تكمن في أنها أصبحت نموذجاً متجدداً يثبت أن مصر، عندما تتوحد إرادتها، وتستند علي العلم والعمل، وتؤمن بعدالة قضيتها، يمكنها أن تتحدى المستحيل وتصنع المعجزات.