يشهد مهرجان البندقية السينمائي هذا العام في دورته الـ88 تألقا استثنائيا، خاصة وأنه الحدث الأرقى بلا منازع في جدول المهرجانات السينمائية السنوية، باعتباره منصة انطلاق الأفلام المرموقة التي تعرض بعين على جوائز الأوسكار وأخرى على إيرادات شباك التذاكر، ويشهد العام الحالي لقاء عدد من النجوم والمخرجين في أعمال مبدعة، وتحولات نوعية في أداء نجوم آخرين.
ويشهد المهرجان هذا العام، لقاء النجمين جورج كلوني وآدم ساندلر ليشاركان البطولة في الكوميديا “Jay Kelly” من إخراج نواه باومباخ، ليجسدا شخصيتي نجم هوليوود الأسطوري ومديره المخلص، أما دوين جونسون “ذا روك” فيسعى لنيل احترام الجمهور والنقاد كممثل جاد من خلال دوره أمام إميلي بلنت في فيلم “The Smashing Machine” من إخراج بيني سافدي، وهو سيرة ذاتية لمقاتل في رياضة الفنون القتالية المختلطة “MMA”، فيما تعود النجمة جوليا روبرتس إلى الشاشة في فيلم الإثارة النفسية “After the Hunt” من إخراج لوكا جوادانيينو.
كما يشهد المهرجان لقاء متجددا لإيما ستون مع المخرج يورجوس لانثيموس في فيلم “Bugonia” الغامض بعد عامين من نجاحهما الكبير في فيلم “Poor Things”، وتجمع المخرجة كاثرين بيجلو كل من إدريس إلبا وريبيكا فيرجسون وجاريد هاريس في فيلمها الجديد “A House of Dynamite”، ويعود المخرج جييرمو ديل تورو لإحياء قصة “Frankenstein” مع الفنان أوسكار إسحاق في دور الدكتور الشهير والنجم جايكوب إلوردي في دور الوحش.
ومن الأفلام التي تشهد تحولا نوعيا لأداء النجم هو فيلم “The Smashing Machine” الذي يظهر فيه بشكل واضح تخلي المصارع السابق ونجم الأكشن دوين جونسون عن شخصيته الهوليودية النمطية المبالغ فيها والتي لزمها خلال عقدين كاملين، وذلك لصالح هذا الدور الذي يعد نقلة نوعية على المستويين العاطفي والمزاجي وإن لم يكن على المستوى الجسدي أيضا، وفي هذا الفيلم المُشبِع بصريا، يؤدي جونسون دور المقاتل مارك كير أحد الشخصيات الأساسية في صعود رياضة الفنون القتالية المختلطة (MMA) إلى الشهرة خلال تسعينيات القرن الماضي.
أما الفيلم المبهر بصريا والمتخم بالمشاهد الممتعة “The Testament of Ann Lee”، فقد استطاعت خلاله الكاتبة مونا فاستفولد بالتعاون مع زوجها برادي كوربيت، من تحويل قصة تقليدية لسيدة -تلعب دورها أماندا سيفريد- مؤسسة بريطانية لإحدى الطوائف هاجرت من مانشستر إلى نيويورك في سبعينيات القرن الثامن عشر وأسست مستعمرة هناك، إلى فيلم موسيقي استعراضي زاخر بالحيوية.
ومن الأفلام اللافتة للنظر “Motor City” – وهو فيلم أكشن تجريبي تدور أحداثه في السبعينيات- يظهر فيه الفنان آلان ريتشسون بدرجة أسطورية من الصمت حتى أنه لا ينطق سوى جملة واحدة طوال الفيلم، ويتضمن الحوار كاملا عدد قليل للغاية من الجمل بلغت 6 جمل فقط، ويعتمد الفيلم بشكل كبير على المشاهد الصامتة والمونتاج والحركة البطيئة مصحوبة بموسيقى من تلك الحقبة الزمنية، في قصة بسيطة للبطل الذي يقع في الحب ويُتهم زورا بتهريب المخدرات فيزج به في السجن ثم يهرب لاحقا لينتقم انتقاما دراميا، وفي حين يتميز هذا الفيلم بأسلوب فني بصري مسل، إلا أنه يبقى حيلة سينمائية أكثر من قصة متعمقة أو حوار قوي.
وفي حين يعرف المخرج جيم جارموش كأحد أعمدة السينما الأمريكية المستقلة، فإنه يقدم هذا العام تجربة جديدة في فيلمFather Mother Sister Brother” الذي يتألف من ثلاث قصص منفصلة عن زيارات يقوم بها أشقاء بالغون لآبائهم في أماكن وظروف مختلفة (نيوجيرسي ودبلن وباريس)، ويحاول الربط بين القصص عبر تكرار رموز وعناصر غريبة ليُظهر أن الآباء معقدون وغريبو الأطوار لكننا سنفتقدهم مهما كانوا كذلك، وتحمل القصة الأولى بعض العمق وهي الأفضل نسبيا، لكن الثانية كاريكاتيرية والثالثة يتخللها الملل، ورغم فكرة الفيلم الجيدة إضافة إلى مشاركة ممثلين بارزين مثل كيت بلانشيت وآدم درايفر وتوم وايتس، إلا أنه مفتقر للحيوية ويعاني من ضعف في التنفيذ وتعثر في السرد.
وبالعودة إلى جييرمو ديل توترو، فإن أحد الأسباب التي تجعل أفلامه المتعلقة بالوحوش ممتعة هو مدى براعة المخرج في جعل الجمهور يتعاطف مع الوحش، بل أحيانا ينضم بالكامل إلى فريق الوحش، وبالرغم من كون فيلم “Frankenstein” المشارك في المهرجان لا يلتزم حرفيا أو نصيا بتفاصيل الرواية الأصلية لمار شيلي الصادرة عام 1818، إلا أنه وفي لروحها وأفكارها الجوهرية، وهنا يجسد دور الوحش النجم الصاعد جاكوب إلوردي بتألق، لتكون النتيجة أن يصبح تعاطف المشاهدين ممزقا.
أما في الفيلم الساحر والمتشابك والمليء بالعقد “Rose of Nevada”، يؤدي جورج ماكاي وكالوم تورنر دور صيادين شابين يعودان إلى قريتهما الساحلية بعد فترة قصيرة في البحر، ليكتشفا أنهما عادا بالزمن إلى عام 1993، بعد أن أبحرا على متن سفينة أنيقة اختفت قبل ثلاثين عاما، لكنها ظهرت فجأة من جديد مربوطة على الرصيف دون تفسير، وينبش الفيلم في فكرة الزمن ذاته بأسلوب بصري خاص جدا، ويضيف المخرج مارك جنكن لمسة “خيال علمي شعبي” نادرة في السينما البريطانية.
وعندما نشاهد أفلام النجمة جوليا روبرتس، لا يمكننا تجاهل ابتسامتها المشرقة التي جعلت منها نجمة على مدار عقود، ولكنها في فيلم “After the Hunt” في مهرجان البندقية تطل بأداء أكثر نضجا وتعقيدا يعيد تعريفها بعيدا عن سحرها المعتاد، فالفيلم مصنف كإثارة نفسية وأخلاقية لاذعة ومبهجة يقدم فيه المخرج الإيطالي ابتسامة خبيثة تستمتع بجذب الشخصيات والمشاهدين معها إلى أعماق القصة.
وبمشاركة كورية في المهرجان يظهر فيلم الفنتازيا السوداء المظلمة “No Other Choice” للمخرج الكوري بارك تشان ووك، الذي يجسد فيه البطل شخصية رجل يصبح قاتلا متسلسلا ليحصل على وظيفة، وفي حين أن الفيلم مقتبس من رواية أمريكية كتبها دونالد إي ويستليك عام 1997 بعنوان The Ax، والتي سبق أن تم تحويلها إلى فيلم فرنسي عام 2005، إلا أنه من الواضح أن نسخته الكورية تبدو وكأنها مصممة خصيصا للسينما الكورية التي أنجبت أعمالا تمزج بين الواقع والسخرية والجنون بأسلوب مميز، أما من ناحية الإخراج، يقدم المخرج جرأة بصرية وسينمائية عالية، حتى المشاهد المتوقعة تقدم بلمسة عبثية ذكية.
ويتعاون النجم جورج كلوني من المخرج نواه بومباك ليقدما كوميديا ذكية في فيلم “Jay Kelly”، حول نجم سينمائي وسيم في أوائل الستينيات من عمره معروف في كل مكان يذهب إليه، وهو الاتهام الموجه للنجم جورج كلوني على أرض الواقع وبشكل مستمر بأنه يلعب نفس الشخصية في كل أفلامه، إلا أن الدور يسخر من صورة النجم المشهور وحتى من كلوني نفسه بطريقة مرحة وعميقة، من خلال بعض مقتطفات من أفلام كلوني الحقيقية.
وفي أحدث تعاون للنجمة إيما ستون مع المخرج يورجوس لانثيموس يبرز في المهرجان فيلم “Bugonia”، بعد أن تعاونا من قبل في أربعة أفلام طويلة وفيلم قصير، وهو ما يدل بوضوح على أن كلاهما على نفس الموجة الإبداعية، وما يجعل تعاونهما ممتعا للغاية هو أن المشاهد يحاول باستمرار أن يفهم على أي موجة تحديدا يعملان، وهذا الفيلم الساخر والمظلم يدور في عالم “فقاعة الإنترنت” ويتناول قصة رئيسة تنفيذية شابة وناجحة في شركة أدوية يتم اختطافها على يد موظف بسيط يعمل تحت إدارتها.
ويتضمن المهرجان أيضا فيلم “Megadoc” الوثائقي من إخراج مايك فيجيس، والذي يتتبع خلاله كواليس صناعة فيلم الخيال العملي والملحمة Megalopolis للمخرج الأسطوري فرانسيس فورد كوبولا الذي تكلف بتمويله 120 مليون دولار بعد أن رفضت كل استوديوهات هوليوود دعمه، وفشل في شباك التذاكر محققا 14 مليون دولار فقط، وبالرغم من أن فيجيس لا يتضمن فيلمه الوثائقي على “كارثة” حقيقية، إلا أنه يقدم رؤية واقعية ومتواضعة لصانع أفلام يحاول استعادة شبابه الفني.
أما فيلم الافتتاح في مهرجان البندقية “La Grazi” من إخراج باولو سورينتينو، فتدور قصته حول الرئيس الإيطالي المنتهية ولايته وهو يواجه قرارات أخلاقية صعبة في أيامه الأخيرة، منها مشروع قانون مثير للجدل حول القتل الرحيم وقضايا الإفراج المبكر عن مدانين، ويقدم البطل توني سيرفيلو أداء مميزا بالفيلم، لكنه يفتقر إلى الحيوية الدرامية والجاذبية التي تتميز بها أفلام سورينتينو السابقة، ويبدو أنه يلبي أذواق الجمهور المحلي أكثر من الدولي.