تقدم المخرجة اللبنانية لانا ضاهر في فيلمها “هل تحبني؟” (Do You Love Me) رؤية سينمائية فريدة لـبيروت، من خلال تجميع أرشيفي مؤثر يعيد إحياء ذاكرة المدينة المجزأة. يعرض الفيلم لقطات متنوعة – أفلام قديمة، برامج تلفزيونية، تسجيلات منزلية، موسيقى، وصور فوتوغرافية – لتقديم صورة حميمة لمدينة شهدت دورات متكررة من الفرح، المقاومة، العنف، والفقد. وقد حظي الفيلم بإشادة واسعة بعد مشاركته في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومهرجان فينيسيا السينمائي.

ذاكرة بيروت البصرية والسمعية في فيلم “هل تحبني؟”

يستكشف الفيلم تاريخًا مقسمًا لبيروت، في بلد يفتقر إلى أرشيف وطني شامل، كطريقة للحفاظ على الذاكرة الجماعية. تعتمد ضاهر على أعمال المصور فؤاد الكوري، الذي وثق جزءًا كبيرًا من الفراغ الذي عانت منه الفنون البصرية في لبنان لفترة طويلة. الكوري، المعروف بتصويره لبيروت خلال الحرب الأهلية، قدم مجموعة “بيروت المظلمة” التي توثق الحياة اليومية في العاصمة المدمرة.

تعكس هذه اللقطات الأولية للمدينة لحظات سريالية من التناقض، حيث يظهر التدمير العشوائي لصورة بيروت العالمية. تتميز الصور بشاعريتها البصرية، وتسلط الضوء على الهشاشة التي بنيت عليها الأوهام. بالإضافة إلى ذلك، يركز الفيلم على المشاهد الاجتماعية المتنوعة، مما يعكس كيف يتغير الفضاء في ظل الجمود السياسي.

تركيبات الحرب وتأملات في الماضي

تتميز بعض الصور بطابع ذاتي، مما يضع المشاهد داخل مذكرات بصرية. هذا الأسلوب السردي يخلق تأثيرًا مشابهًا لتركيبات مزقتها الحرب، حيث يتم استكشاف الطرق والشوارع شبه المهجورة بمنظور عابر. المساحة الزرقاء للبحر الأبيض المتوسط ​​تذكر المشاهد بحجم لبنان الصغير. القرب الذي تم التقاط هذه الصور به ليس مجرد توثيق تاريخي، بل هو مقصود لإثارة مشاعر قوية.

يتضمن الفيلم مشاهد من سلسلة “آثار الحرب” وأخرى من وسط بيروت بعد نهاية الحرب الأهلية، والتي تحمل في طياتها السخرية وخيبة الأمل. هناك عنصر من العفوية في المشاهد، مما يدعو المشاهد إلى تخيل اللحظة التي اكتشف فيها المصور إمكانية التقاط صورة قوية. على سبيل المثال، كلب ضال يقترب من فاصل إسمنتي يحمل اسم بيروت، أو بوابة متجر مثقوبة بالرصاص تعيق رؤية الفنان للمباني المجوفة.

روح أفلام آيلا هبري ومارون بغدادي

يتجلى تأثير فيلم “ذكريات ضائعة” لآيلا هبري في “هل تحبني؟”، من خلال أشكال النقد السياسي والاجتماعي التي تتحدى هياكل السلطة الثقافية. كما يظهر تأثير أفلام مارون بغدادي، وخاصة عمله “همسات”، في قدرة المخرجة على التقاط جمالية الصورة وسط الخراب والدمار. استطاع بغدادي أن يجد الهدوء وسط المآسي، وهو ما تحاول ضاهر تحقيقه في فيلمها.

أنقاض بيروت وقراءة في مستقبلها

الفيلم هو بمثابة اعتراف دائم بحب بيروت، حيث تثير كل لقطة مشاعر قوية. الكاميرا توثق الحرب الأهلية منذ السبعينيات، وتصور مدينة تنزف بلا توقف. الفيلم ليس سردًا خطيًا، بل هو سؤال حول مستقبل لبنان. منذ البداية، يخيم الموت على المكان، حيث يغني الشباب أغنية حزينة بينما تستمر الموسيقى التصويرية في الخلفية، وتظهر صور للمباني المدمرة والشوارع المليئة بالأنقاض.

تتجول الكاميرا في مشهد المدينة المقفر، متاهة من أنقاض بيروت، بينما تلتقط الصور، في لقطة طويلة ومثيرة، تندمج مع ملاحظات الحاضر، مما يجعل الماضي يبدو أكثر حضورًا. الفيلم يقدم تأملات مؤلمة حول الحرب الأهلية والحياة المدنية، ويعكس فكرة أن “بلدًا، أمةً، تقف على وشك النهاية”. ومع ذلك، تحاول المخرجة، بإخلاص وأمل، نقض هذا التأمل الكئيب من خلال تعليق صوتي يرافق صورًا تراقب بحماس وحزن لبلد جريح، وتصف من خلاله الخوف المختبئ في احتفالاتهم، واليأس الكامن في شوقهم.

تُظهر الموسيقى ذلك الأمل الذي يعبر عنه البعض، موضحةً أنه حتى في زمن السلام النسبي لا يمكن مناقشة أسباب الحرب الأهلية وتفاصيلها علنًا أو مواجهتها بصراحة، خشية إشعال فتيل عنف جديد. هذا العجز عن مواجهة القضايا الأساسية يُعد في حد ذاته مصدرًا محتملًا لاندلاع قتالٍ متجدد. الفيلم يصور واقعًا مأساويًا ومضحكًا في آن واحد، حيث تعج الشوارع بالحواجز المسلحة، ويصبح صوت إطلاق النار بمثابة الموسيقى التصويرية للحياة اليومية.

من المتوقع أن يستمر عرض فيلم “هل تحبني؟” في المزيد من المهرجانات السينمائية الدولية، مما يساهم في زيادة الوعي بتاريخ لبنان المعقد. سيراقب النقاد والجمهور ردود الفعل على الفيلم، وكيف سيساهم في الحوار حول الذاكرة الجماعية والتعامل مع الماضي في السينما العربية.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version