بعد نحو عام من الذكرى المئوية لميلاد الكاتب التشيكي فرانز كافكا، عرض مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فيلم “Franz” للمخرجة البولندية أجنيسكا هولاند، والذي يسعى إلى تقديم صورة سينمائية شاملة لحياة هذا الرمز الأدبي. الفيلم، الذي اختارته بولندا لتمثيلها في سباق الأوسكار، يمثل محاولة طموحة لاستكشاف عالم كافكا المعقد، من خلال بنية سردية غير تقليدية.
يعتبر فرانز كافكا من أبرز رموز الأدب في القرن العشرين، وقد ألهمت أعماله العديد من صناع السينما حول العالم. غالبًا ما تُوصف الأفلام المستوحاة من أعماله بأنها “كافكوية”، وهي أفلام تتميز بالتوتر والعبثية والقلق والاغتراب. يهدف فيلم هولاند إلى تقديم سيرة ذاتية متعمقة للكاتب، تتناول مراحل حياته المختلفة.
بنية سردية معقدة في فيلم عن كافكا
لا تعتبر أفلام السيرة الذاتية تحديًا جديدًا لأجنيسكا هولاند، التي سبق لها اقتباس أعمال مسرحية للتلفزيون. ومع ذلك، يتميز فيلم “Franz” ببنية سردية متشعبة، حيث تتبع المخرجة حياة كافكا من طفولته حتى وفاته المبكرة، وذلك من خلال بناء سينمائي متعدد الطبقات والأنماط. يجسد الممثل إيدان فايس دور كافكا في مرحلة النضج، بينما يلعب دانييل دونجريس دور كافكا الشاب.
يقدم الفيلم صورة حية لبراغ في مطلع القرن العشرين، حيث يظهر كافكا ممزقًا بين سلطة والده الصارمة، ووظيفته الروتينية في شركة التأمين، وشغفه بالكتابة. على الرغم من بدء نصوصه في جذب الانتباه، إلا أنه يظل عالقًا بين عالم التوافق وعالم الذات المتفجرة بالأفكار.
تحديات السيرة الذاتية السينمائية
يعرض الفيلم تفاصيل عديدة عن حياة كافكا، بما في ذلك علاقته بعائلته، وعمله الذي لم يحبه، وعلاقاته المتأزمة، ومعاناته مع المرض. ومع ذلك، فإن هذا التراكم الكبير من التفاصيل قد يجعل السرد أحيانًا أقرب إلى “موسوعة” مصورة منه إلى فيلم سينمائي متماسك. ورغم هذا الزخم المعلوماتي، ينجح الفيلم بصريًا في إعادة إحياء براغ في تلك الفترة، مع التركيز على العمارة والملابس المستوحاة من تلك الحقبة.
تستخدم هولاند تقنيات سينمائية مبتكرة لدمج الماضي والحاضر، من خلال مشاهد في متحف كافكا، وجولات سياحية، وسلع تجارية تحمل اسمه، في محاولة لتصوير كيف تحول الكاتب إلى “منتج ثقافي”. ومع ذلك، يرى البعض أن الفيلم يعيد إنتاج الصورة النمطية لكافكا كما رسختها الذاكرة الشعبية، دون اختراق عميق لما وراء الأسطورة.
خط كافكا: أيقونة ثقافية
يشتهر كافكا بجمال خطه وحرصه على الكتابة باليد، حتى في عصر الآلة الكاتبة. تُعرض مخطوطاته اليوم في المتاحف، وقد اكتسبت مكانة أيقونية. يستثمر الفيلم هذا الإرث من خلال مشاهد لصفحات تتطاير، وحبر يسيل، ورسائل حب تُقرأ كأنها وميض من زمن ضائع. لكن هذه الصور، كما يلاحظ الفيلم نفسه، ليست سوى “نسخ طبق الأصل”، تشبه السيرة التي يصنعها الفيلم: جميلة، أنيقة، لكنها سطحية مقارنة بعمق الرجل الحقيقي.
يعاني السيناريو من الركود في بعض المقاطع، حيث يتنقل بين طفولة كافكا وشبابه وعلاقاته، لكنه لا يكسر إيقاع أفلام السيرة التقليدية. كما أن اعتماد الفيلم على التشابه الشكلي بين الممثلين ونظرائهم الحقيقيين، وإعادة إنتاج الملابس والصور حرفيًا، يزيد الأمر تعقيدًا. الحوار يحاكي نصوص كافكا نفسها، بل يتحول أحيانًا إلى مونولوجات تُلقى مباشرة إلى الكاميرا، وهو ما قد يفقد الفيلم بعضًا من حيويته.
يتضمن الفيلم لقطات غريبة أو رمزية تثير تساؤلات، مثل حبّة كرز معلّقة فوق شفتي كافكا، أو مراقبته للفتيات من تحت التنانير. قد تحمل هذه المشاهد دلالات رمزية، لكنها تأتي دون سياق درامي يبررها.
هوية كافكا وتأثيرها
تظهر إشارات متكررة إلى هوية كافكا اليهودية، لكن الفيلم لا يذهب بعيدًا في شرح تأثيرها على أدبه أو على مكانته التاريخية. يكتفي الفيلم بلمسات عابرة حول محاولات الأنظمة السياسية السابقة محو إرثه. يمزج الفيلم بين كافكا الأسطورة وكافكا الإنسان، لكنه لا يتمكن دائمًا من إيجاد مسافة تحليلية بينهما.
يحمل الفيلم إيمانًا صادقًا بأن كافكا شخصية عظيمة، وأن عزلة الفنان تضحية ثمينة. تبدو هولاند شديدة التمسك بهذا الطابع الميتافيزيقي، فتقدمه أحيانًا داخل زنزانة، وأحيانًا على خشبة مسرح، أو وسط مرايا لا نهائية، في استعارات بصرية مكثفة.
يسعى فيلم “Franz” للإجابة عن سؤال: ما هو جوهر كافكا؟ وكيف دُفن هذا الجوهر تحت طبقات الثقافة الشعبية؟ ورغم براعته البصرية وفضوله الفكري، يظل الفيلم محاولة أخرى لالتقاط “العابر” في حياة رجل جعل من الغموض أسلوبًا دائمًا للوجود. من المتوقع أن يستمر الفيلم في إثارة النقاش حول كيفية فهم أعمال كافكا وتفسيرها.
من المرجح أن يثير الفيلم المزيد من الاهتمام بأعمال كافكا، وأن يشجع على إعادة قراءة أعماله وتحليلها. سيستمر مهرجان القاهرة السينمائي في عرض الأفلام التي تسلط الضوء على الأدب العالمي، وتقديم رؤى جديدة حول شخصيات أدبية بارزة.

