يشهد قطاع غزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية حملة هدم واسعة يقودها الاحتلال بمشاركة شركات مدنية وأيد عاملة استقدمت بشكل خاص لهذه المهمة.

وقد وثقت مقاطع مصورة انتشرت عبر المنصات الرقمية مشاهد لجنود وعمال أثناء تنفيذ عمليات الهدم وهم يطلقون الضحكات والتعليقات الساخرة، في مشهد يكشف عن سياسة منظمة تستهدف تدمير آلاف المباني وتحويل مساحات شاسعة من القطاع إلى أنقاض.

ولا تقتصر هذه السياسة على الجانب العسكري فحسب، بل تعتمد على أدوات أخرى: إعلانات عبر منصات التواصل، وخطاب أيديولوجي يقدم مشغلي الجرافات في صورة “أبطال”، إلى جانب حوافز مالية ضخمة وتسهيلات لوجستية يوفرها الجيش لكل من ينخرط في هذه العمليات.

وبهذا المزيج من الدعاية والتحفيز المادي، يحول الاحتلال الهدم إلى مشروع مربح، يجمع بين الرغبة في الانتقام من السكان الفلسطينيين وبين استثمار أنقاض مدنهم وبيوتهم في صناعة منظمة للدمار.

في هذا الملف، تتبع فريق “الجزيرة تحقق” مسار هذه السياسة، وكيف عمل الاحتلال على استقطاب الأفراد وشركات المعدات الثقيلة للمشاركة في أوسع حملة هدم يشهدها القطاع، ورصد ما تنشره هذه الشركات عبر منصات التواصل الاجتماعي من مقاطع توثق عمليات التدمير وتحويل الأحياء السكنية إلى أطلال.

ميشك عفار

أول هذه الشركات هي “ميشك عفار المحدودة” وهي واحدة من أبرز الشركات الإسرائيلية الخاصة العاملة في مجال البنية التحتية والهندسة المدنية، ويملكها رجل الأعمال الإسرائيلي ألون إلغالي الذي ظهر شخصيا في مواقع الهدم داخل قطاع غزة.

خلال العدوان على رفح جنوب القطاع، وثق أحد عمال الشركة مقطعا مصورا يظهر عمليات هدم واسعة، وقد ظهر فيه وهو يرحب بوجود رئيس الشركة إلى جانبه قائلا:  “ها هي كل أطلال رفح، ميشك عفار تعمل بالمعدات الثقيلة داخل رفح. نحن هنا منذ ثلاثة أيام، ولدينا سنة كاملة أمامنا لنواصل من دون توقف. رئيس ميشك عفار، ألون إلغالي، معنا بشخصه حضر. فرحة، فرحة، فرحة. غدا سيأتي ليهدم المسجد. نتمنى لنا التوفيق والأخبار السارة.”

 

تايلور كرادي غروب

تأسست مجموعة تايلور كرادي غروب عام 2008، وهي شركة إسرائيلية متخصصة في إعادة التدوير ومعالجة النفايات ونقل الحاويات، إلى جانب خدمات النقل وتوريد المواد وأعمال التطوير والبنية التحتية. يقودها رجل الأعمال ليئور كرادي، الذي لم يخف مشاركة شركته المباشرة في عمليات الهدم داخل قطاع غزة.

يقول كرادي إن الجيش الإسرائيلي يستعين بشركاته لتعويض ضعف خبرة جنود الاحتياط في تشغيل المعدات الثقيلة خلال عمليات الهدم، موضحا “في كل طاقم خمسة معدات ثقيلة على الأقل، بينما ندخل نحن بثمان إلى اثنتي عشرة معدة. طاقم كهذا يهدم نحو 100 مبنى في اليوم. جميع الطواقم تدخل مع حراسة الجيش، ولدينا ذراع تنفيذية كاملة لغزة بمديري عمل وعمال مهرة.”

ويشرح كرادي آلية العمل قائلا “الطواقم التي تهدم المباني في غزة تسويها حتى مستوى الصفر، بحيث لا يبقى حتى عمود قائم يمكن أن يختبئ خلفه مسلحون. بهذه الطريقة، حتى لو كانت هناك أنفاق تحت المباني، تغلق تماما بالأنقاض.”

أما من الناحية المالية، فقد كشف أن كل معدة ثقيلة تعمل لصالح وزارة الدفاع داخل غزة تدر على صاحبها نحو 150 ألف شيكل شهريا، مع تكفل الوزارة بنفقات الوقود.

وأضاف أن تشغيل 500 معدة ثقيلة في آن واحد يقترب من 100 مليون شيكل شهريا، مؤكدا أن الطلب على المعدات لا يتوقف عند هذا الحد.

إعلانات عبر المنصات

لم تقتصر حملة الهدم الإسرائيلية على الشركات الكبرى التي سخرت معداتها داخل غزة، بل امتدت إلى الأفراد العاديين عبر إعلانات متفرقة على منصات التواصل، كان المشهد لافتا: جيش الاحتلال نفسه يتحول إلى “جهة توظيف”، يروّج بعروض مغرية، ورواتب خيالية، وسكن مجاني، وحتى وجبات يومية لمن يقبل أن يقود جرافة أو حفارا فوق أنقاض البيوت.

صحيفة ذا ماركر الاقتصادية الإسرائيلية دخلت على خط القصة، فحاورت أحد مشغلي المعدات الثقيلة وكأنها باحثة عن عمل، فأجابها بحماسة: “تريد الدخول إلى غزة؟ غدا سأدخلك. سأشتري لك آلة بنفسي فقط ادخل.”

لم يكن الرجل يتحدث بجدية مهنية، بل بلغة التاجر الذي يرى أمامه سوقا ذهبية، فقد كشف أن شراء حفارة واحدة بقيمة 700 ألف شيكل يمكن أن يدر ربحا يوميا يصل إلى 4 آلاف شيكل، بينما يدفع الجيش 5 آلاف شيكل يوميا لأصحاب المعدات، يقتطع منها المشغل ألف شيكل فقط، وإذا لم يجدوا عاملا مدنيا، فالحل أبسط: يضعون مكانه جنديا، بلا حاجة لدفع أجور إضافية.

وروى أحد العمال تجربته مع هذا “السوق” قائلا “في البداية فعلت ذلك من أجل المال، ثم من أجل الانتقام، العمل هناك صعب وسيئ، الجيش يريد أن يهدم أكبر عدد ممكن من المباني ولا يهمه أي شيء، كنت أتقاضى 30 ألف شيكل في الشهر، حصلت على سيارة ملاصقة وشقة في عسقلان، الوقود على حساب الجيش، والزيوت على حسابنا.” شهادته تكشف أن الحافز المالي لا يقل حضورا عن البعد الأيديولوجي.

لم تكن هذه مجرد أحاديث جانبية، بل هو سوق عمل مفتوح يمكن رصده علنا، فعلى مجموعات فيسبوك، تتكرر الإعلانات: “لمشروع تابع لوزارة الدفاع والجيش مطلوب مشغل بأجر للعمل في قطاع غزة، 1200 شيكل صاف لليوم من الساعة 7 صباحا حتى 5 مساء، مع توفير سكن ووجبات.”، وآخر يطلب مشغلي حفارات لمشاريع في محور فيلادلفيا وموراغ داخل القطاع.

هكذا، وبأسلوب يشبه عقود العمل الموسمية، تحولت غزة إلى “ورشة مفتوحة للهدم”، حيث تُعرض أنقاضها في سوق مربح، ويتقاسم عائداتها الجيش الإسرائيلي وأصحاب المعدات والشركات، بينما يترك السكان بلا مأوى ولا ذاكرة.

 

بطولة على الأنقاض

لم تكتف إسرائيل بجعل الهدم نشاطا عسكريا أو سوقا مفتوحا للعمالة والشركات، بل صاغت له سردية بطولية خاصة، فبدل أن يُنظر إلى مشغلي الجرافات كأدوات لتنفيذ سياسة التدمير، جرى تقديم بعضهم في الإعلام الإسرائيلي كـ”أبطال” ورموز وطنية.

من أبرز هذه الوجوه برز اسم الحاخام أفراهام زرفيف، جندي الاحتياط الذي تحول إلى ما تسميه وسائل الإعلام العبرية “بطل التدمير”.

ظهر زرفيف على شاشات القنوات الإسرائيلية وهو يقود جرافة عسكرية من نوع “دي9” متحدثا بحماسة عن تجربته: “أشعر أنني أعزف على الجرافة. أنتم لا تفهمون ما معنى أن تهدم بناية من سبعة طوابق، ثم ستة، ثم خمسة… في أسبوع واحد كنت أهدم بمعدل خمسين بيتا. إنه فن تعلمناه.”

הרב אברהם זרביב ששירת מעל 470 ימים במילואים, בריאיון בפטריוטים

 

 

المشهد لم يقف عند حدود الشاشات، بل امتد إلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث نُشرت مقاطع مصورة له وهو يهدم منزلا فلسطينيا في غزة، بينما يعلق صحفي إسرائيلي قائلا “الحاخام زرفيف لا يترك نصف عمل. البيت يقاوم أكثر، وهو يصر أكثر… حتى يهدمه تماما.”

 

 

زرفيف نفسه ذهب أبعد من ذلك، حين صاغ تجربته بلغة أيديولوجية واضحة، إذ قال في مقطع مصور “نحن هنا في يوم المحرقة، نقسم أن ذلك لن يتكرر، من رفح نعلن أن شعب إسرائيل حي، ولن يكون ضعيفا بعد اليوم.”

 

بهذا الخطاب، يتحول الهدم من فعل عسكري عقابي إلى مشهد رمزي، يقدَم فيه الجنود والمستوطنون بوصفهم “مدافعين” عن إسرائيل، فيما يمحى من السردية الرسمية أثر الضحايا وعائلاتهم التي فقدت منازلها.

اقتصاد الدمار

كشفت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن التبرير الرسمي للجيش بأن عمليات الهدم في غزة تأتي لأسباب “عملياتية” يتناقض مع النموذج الاقتصادي المعتمد، حيث يكافأ المقاولون وأصحاب المعدات على كل مبنى يسوى بالأرض، وهو ما يحوّل الهدم من إجراء عسكري إلى استثمار منظم في اقتصاد الحرب.

وبحسب الصحيفة، فإن التسعيرة التي يعرضها الجيش واضحة: 2500 شيكل لهدم مبنى يقل ارتفاعه عن 3 طبقات، و5 آلاف شيكل للمباني الأكثر ارتفاعا.

مثل هذا “التسعير المقاولاتي”، على حد وصفها، يخلق حافزا مباشرا للمنخرطين في عمليات الهدم من أجل تدمير أكبر عدد ممكن من المباني في أسرع وقت، وهو ما يتعارض مع أي منطق عسكري بحت.

وأضافت هآرتس أن صورة مشغلي الآليات الثقيلة تعكس ذلك أيضا؛ فالأجور لا تُدفع بنظام مقاولات فقط، بل على أساس يومي أو شهري، وبمبالغ تفوق بكثير ما يتقاضونه في العمل داخل إسرائيل.

بعض هؤلاء المشغلين يحصلون على رواتب تصل إلى 30 ألف شيكل شهريا، وهو ما يفترض -وفق الصحيفة- أنه يعوض عن المخاطر التي تثني الكثيرين عن دخول القطاع.

 

هدم من أجل التسلية

لم تقدَّم عمليات الهدم في غزة باعتبارها واجبا عسكريا فقط، بل تحولت في كثير من المشاهد إلى عرض استعراضي يختلط فيه الانتقام بالتسلية.

مقاطع مصورة تداولها جنود وصحفيون إسرائيليون على المنصات الرقمية أظهرت لحظات من الضحك والتصفيق، وأغان تردد داخل الجرافات العسكرية وهي تلتهم البيوت واحدا تلو الآخر.

في أحد الفيديوهات، ظهر جنود إسرائيليون من داخل جرافة كاتربيلر دي9 يغنون ويضحكون أثناء هدم منازل في غزة، وكأنهم في احتفال لا في ساحة حرب.

ولم يكن ذلك المشهد معزولا؛ فقد وثقت لقطات أخرى جنودا يصفقون بحرارة بعد إتمام عملية هدم، فيما أهدي تدمير بعض المنازل “لأصدقاء” أو “لأرواح جنود قتلوا في غزة”، لتتحول الجرافة إلى أداة لإرسال رسائل شخصية أو جماعية مفعمة بالشماتة.

 

اعتراف إسرائيلي

بعد أن سوى الاحتلال آلاف المنازل والمدارس والمستشفيات والمرافق العامة بالأرض، لم تعد حياة الغزيين كما كانت، حتى لو توقفت الحرب غدا، فآلة الهدم لم تكتف بتدمير الجدران، بل محت معها الذكريات والتفاصيل اليومية التي صنعت ملامح مدينة كاملة.

هذا ما أكده الباحث الإسرائيلي عدي بن نون، المحاضر في قسم الجغرافيا ورئيس وحدة نظم الخرائط في الجامعة العبرية، حين قال بوضوح “لسكان القطاع لا يوجد ما يعودون إليه، حياتهم اليومية، كانت ولم تعد موجودة. الدمار حاضر في كل المستويات: من البيت الذي هدم، إلى مؤسسات الجمهور، أماكن العمل، المدارس، والأراضي الزراعية – كل شيء دمر.”

ووفقا لتحليلات بن نون حول حجم الدمار في غزة، هناك نحو 160 ألف مبنى -أي حوالي 70% من مجموع المباني في غزة- لحقت بها أضرار جسيمة (دمار لا يقل عن 25%) تجعلها غير صالحة للسكن، ومع ذلك، على حد قوله، قد تكون نسبة الدمار أعلى من ذلك؛ لأن القمر الصناعي محدود في قدرته على تحديد الأضرار التي لحقت بجدران المبنى من دون أن تؤدي إلى انهيار السقف.

وبحسب بن نون، فإن مدينة رفح، التي كان يسكنها حتى بداية الحرب نحو 275 ألف نسمة، هي التي تضررت بأشد شكل مع دمار كامل أو جزئي لحوالي 89% من المباني .

ووفقا لتقديراته، “منذ أبريل يُهدم في المنطقة نحو ألفي مبنى في المعدل كل شهر، في الأسابيع الأخيرة كشفت الحكومة عن خطتها لإقامة على أنقاض رفح “المدينة الإنسانية”، التي سيُركز فيها معظم سكان قطاع غزة”.

يذكر أن تقديرات الأمم المتحدة قد أكدت أن إعادة إعمار قطاع غزة بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) ستحتاج إلى مليارات الدولارات وعقود من العمل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version