في غزة، لم تعد جرائم الاحتلال بحق المدنيين في القطاع بحاجة إلى شهود، فجنود الجيش الإسرائيلي أنفسهم يوثقونها بعدسات هواتفهم، وينشرونها بفخر على المنصات الرقمية، في مشهد يخلط بين الدمار والسخرية والإفلات من العقاب.
ورغم تحذيرات الجيش الإسرائيلي التي تمنع جنوده من نشر أو توثيق العمليات عبر منصات التواصل الاجتماعي، خاصة بعد تزايد الانتقادات الحقوقية، إلا أن هذه المقاطع استمرت في الظهور، مما يعكس شعورا لدى مرتكبي هذه الجرائم بالإفلات من المحاسبة، في ظل تواطؤ رسمي يعزز من هذا السلوك.
ولم يقتصر التوثيق والتباهي بالجرائم على حسابات مجهولة فحسب، بل امتد ليشمل حسابات شخصية تحمل أسماء الجنود الحقيقية، ومعلومات عن مواقع خدمتهم والوحدات التابعين لها، في حين تم رصد انتشار فيديوهات مصحوبة بموسيقى درامية وتعليقات تحمل في طيها تفاخرا بارتكاب انتهاكات خلال الحرب على قطاع غزة.
توثيق الجرائم
رصد فريق “الجزيرة تحقق” تكرار ظهور مقاطع قصيرة من داخل قطاع غزة، يظهر فيها جنود إسرائيليون يوثقون يوميا اقتحامات وعمليات تدمير واعتداءات ممنهجة على المدنيين وممتلكاتهم.
ومن هنا بدأ الفريق بتتبع هذه الحسابات وجمع موادها وتحليل رسائلها الضمنية، للإجابة على سؤال جوهري: هل ما نشهده مجرد تجاوزات فردية؟ أم إننا أمام ثقافة عسكرية راسخة تعتبر القتل والخراب، بل والتفاخر بهما، سلوكا مشروعا؟
وحازت منصة “تيك توك” النصيب الأكبر من هذه المشاهد، إذ وثقت مقاطع منشورة من غزة لحظات نسف وهدم وإحراق لمنازل الفلسطينيين، قبل أن تعرض لاحقا كـ”إنجازات شخصية” مرفقة بنبرة بطولية وانتقامية، وسط غياب كامل لأي رقابة.
تفاخر بالجرائم
وباستخدام تقنيات البحث باللغتين العبرية والإنجليزية، رصد فريقنا عشرات الحسابات النشطة لجنود إسرائيليين يشاركون بشكل منتظم مقاطع من داخل غزة عبر منصتي “تيك توك” و”إنستغرام”، كثير منها يتضمن معلومات تعريفية عن أصحابها مثل الأسماء الحقيقية والوحدات العسكرية.
ففي يناير/كانون الثاني 2024، نشر الجندي “يائيف” (yaniv_abutbool) المنتمي إلى اللواء 401 مدرعات مقطعا مصورا يظهر فيه مع جنود آخرين أمام دخان متصاعد جراء التفجيرات، وهو يعلن بصوت مرتفع: “جئنا لاستعادة الشرف الذي سلب منا”.
@yaniv_abutbool חרבותברזל#gazza חייליםצה”ל#for פוריוישראל
♬ צליל מקורי – יניב אבוטבול
@yaniv_abutbool צה”ל_משחרר_את_ציר_פילדלפי#רפיח#ציר_פילדלפי#foryou
♬ צליל מקורי – יניב אבוטבול
كما ظهر في مقطع آخر متجولا بين الأنقاض، ويقف أمام باب منزل يعتقد أنه خال بعد استهدافه، ويطرقه ضاحكا: “أين أنتم؟”.
@yaniv_abutbool #חרבותברזל #צהל #idf #gazza #חיילים #foryou
♬ צליל מקורי – יניב אבוטבול
كما ظهر الجندي أور غولدشتاين (Or Goldstein)، وهو من المشاركين في الحرب منذ بدايتها، في عدة مشاهد يوثق نفسه داخل منازل الفلسطينيين بعد نزوح أهلها، حيث دخل إلى الغرف الشخصية وعبث بمقتنياتهم، مطلقا تعليقات ساخرة تعكس استهزاءه بمعاناة السكان وتشريدهم.
@orgoldi מישהו יודע איפה עבד?? #פוריו #פוריוישראל #ויראלי #foryou #fyp #fypシ #צחוקים
♬ צליל מקורי – Or Goldstein
جندي الاحتياطي إيدن شور (eden_shor) عبر حسابه على “إنستغرام” نشر مقطعا مصورا يوثق اندلاع النيران في أحد منازل الفلسطينيين، وظهر فيه وهو يعلق بعبارة: “انتظروا.. سنحرق كل شيء”.
كما رصد فريق الجزيرة تحقق حسابا عسكريا ينشر مقاطع توثق عمل الجرافات الإسرائيلية وهي تدمر منازل المدنيين عمدا في مناطق متفرقة من قطاع غزة، من دون أي دلائل على وجود مواجهات أو نشاط عسكري في تلك المواقع، وظهرت في المقاطع منازل فارغة من سكانها تسوى بالأرض بشكل متعمد.
@.8170.d ♬ original sound – 💫🎀E🎀💫
@.8170.d ♬ Not Afraid – Eminem
ولم تتوقف الانتهاكات عند حدود التدمير، بل وصلت إلى مستوى من الاستهزاء والسخرية، إذ ظهر جنود في مقاطع مصورة فوق ركام البيوت المدمرة، يضحكون ويلتقطون صورا تذكارية، ويرددون عبارات تهكمية بحق قاطني هذه المنازل بعد مغادرتهم.
من بينهم الجندي “إليفوريما” الذي نشر مقطعا مصورا مع جنود آخرين في منزل مدمر، وأرفقه بعبارة ساخرة: “عندما تشعر أنك في بيتك أكثر من اللازم”.
@eliorfhima #פוריו #צהל #עזה #צהל🇮🇱❤️
♬ צליל מקורי – אליאור
وبرز مطلع العام الماضي مقطع فيديو لجندي إسرائيلي داخل قاعدة عسكرية في غلاف غزة، وقد ارتدى زي دمية ديناصور، قبل أن يشارك في قصف مدفعي يستهدف القطاع، بينما ظهر يرقص فرحا وسط أصوات القذائف في مشهد يجمع بين السخرية والاستهتار بمعاناة الضحايا.
יש מצב שאיבדנו את זה pic.twitter.com/TZtSbar6GV
— מתן צור – Matan Zur (@matanoss) January 18, 2024
كرامة الفلسطيني
وفي السياق ذاته، رصدنا مجموعة من الصور -جرى حذفها لاحقا بعد إغلاق بعض الحسابات الإسرائيلية- أظهرت جنود الاحتلال وهم يعبثون بمقتنيات الفلسطينيين داخل منازلهم بعد نزوحهم.
ولم يتوقف الأمر عند حدود العبث، بل تعداه إلى السخرية من الأطفال، حيث وثقت المقاطع قيام بعض الجنود بتعليق دمى الصغار المسروقة على فوهات مدافع الدبابات وجرافات “دي 9” خلال عمليات الهدم والتدمير، في مشهد يعكس استهزاء مزدوجا بالمكان وبأصحابه، وكأن الهدف لم يكن فقط تدمير البيوت، بل المساس بكرامة الفلسطينيين وذاكرتهم أيضا.
The trend of Israeli D9 bulldozer operators decorating their vehicles with toys looted from the homes of displaced or killed Palestinian children continues during the ongoing genocide in Gaza. pic.twitter.com/ULlgtxCXCb
— Israel Genocide Tracker (@trackingisrael) December 17, 2024
That’s a teddy bear that fell into the hands of Israeli soldiers in a home in Tal al-Hawa, in the west of Gaza City, pictured upon their withdrawal from the neighborhood pic.twitter.com/QqqLyWLqoe
— Maha Hussaini (@MahaGaza) July 20, 2024
أنماط متكررة
ومن تصوير عمليات اقتلاع الأشجار المثمرة في أراضي الضفة الغربية، إلى توثيق تفجير وتجريف المنازل في قطاع غزة، يتجلى مشهد جديد من سادية الجيش الإسرائيلي في تعامله مع كل ما هو فلسطيني، بشرا كان أو حجرا أو شجرا.
قبل أيام فقط، صورت جندية إسرائيلية نفسها وهي تجرف عشرات أشجار الزيتون في قرية “المغير” بالضفة، انتقاما من أهالي القرية عقب اعتداء مزعوم على مستوطن، وكتبت على مقطع فيديو: “لا تعبثوا معي، في المرة القادمة سأهدم منزلا”.
هاجس الملاحقة القانونية
وعبر عدد من الجنود الإسرائيليين لوسائل إعلام عبرية عن مخاوفهم من فضح هوياتهم للعالم بسبب مقاطع الفيديو التي ينشرونها، التي يتابعها حساب “متتبع الإبادة الجماعية الإسرائيلية” (Israel Genocide Tracker) على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرصد الحساب مقاطع الفيديو التي يوثقها وينشرها الجنود، ويحلل بياناتهم ليكشف لاحقا عن معلوماتهم الشخصية، مثل أسمائهم وأعمارهم وأصول عائلاتهم ووحداتهم العسكرية في الجيش الإسرائيلي.
As it has been since day one of the genocide, Israeli terrorists are on a mission to flatten everything in Gaza.
No building is spared as schools, infrastructure, and hospitals are being destroyed to carry out Israel’s ethnic cleansing plan, leaving nothing standing for Gazans. pic.twitter.com/1ejOHkOogA
— Israel Genocide Tracker (@trackingisrael) August 24, 2025
ولا يقتصر الأمر على فضح هويات جنود الاحتلال الذين يتباهون بجرائمهم في غزة، بل باتت مقاطع الفيديو التي ينشرونها تجعلهم عرضة للملاحقة القانونية من قبل حكومات العالم، مثل “مؤسسة هند رجب”، التي تأسست خلال حرب الإبادة ومقرها بلجيكا، وجعلت من توثيق هذه الانتهاكات ومتابعة مرتكبيها أولوية في عملها الحقوقي.
تحليل الحسابات
ورصد فريق الجزيرة تحقق أكثر من 300 حسابا نشطا على منصات التواصل منذ اندلاع الحرب على غزة، تنشر بشكل متواصل مقاطع وصورا توثق أنماطا مختلفة من الانتهاكات، شملت القتل والتهجير والهدم والقصف، فضلا عن السخرية من الدمار وممارسات مهينة استهدفت المدنيين الفلسطينيين بشكل مباشر.
ويظهر التحليل البياني للحسابات أن النشاط الأكبر تمركز على منصتي “تيك توك” و”إنستغرام”، في حين توزعت محتويات النشر بين فيديوهات وصور.
وأظهر التحليل أن بعض هذه الحسابات مرتبط مباشرة بالجيش الإسرائيلي، في حين ينشط بعضها الآخر بشكل فردي دون انتماء رسمي واضح، مما يشير إلى انتشار ثقافة التفاخر بالانتهاكات على نطاق واسع.

إخفاء المعلومات
وبينما تعود نسبة من هذه الحسابات إلى جنود إسرائيليين بهوياتهم الحقيقية، لوحظ أن عددا منها جرى تحويله إلى وضع خاص أو حذف بالكامل، وذلك بعد أن نشر أصحابه محتويات توثق انتهاكات متعددة.
وجاء هذا التحول في أعقاب صدور تحذيرات رسمية من الجيش الإسرائيلي تحظر على الجنود تصوير العمليات أو نشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي.
واعتمدنا في التحليل على جمع هذه الحسابات عبر المصادر المفتوحة، لبناء قاعدة بيانات تكشف أنماط انتشار المواد على الشبكات الاجتماعية، وحجم المشاركة والتفاعل مع المحتوى الذي يوثق جرائم ميدانية في غزة.
يُذكر أن الجيش الإسرائيلي سبق أن أصدر بيانا يحظر فيه على الجنود تصوير أو نشر أي محتوى عملياتي عبر منصات التواصل، مؤكدا أن أي خرق لهذه التعليمات سيعالج بإجراءات انضباطية من قِبل القادة.
كما أصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية توصيات خاصة لجنود الجيش -سواء في الخدمة النظامية أو الاحتياط- ممن شاركوا في القتال ويخططون للسفر إلى الخارج، تقضي بضرورة حذف جميع المقاطع من حساباتهم لتجنب الملاحقة القضائية، والتحقق مسبقا من وحداتهم العسكرية بشأن الدول المسموح لهم بزيارتها، إلى جانب الامتناع عن الإعلان عن وجهات السفر عبر المنصات الرقمية.