يشهد العالم تحولاً في موازين القوى، ويبرز ذلك جلياً في الأحداث الجارية في غزة، حيث أظهرت الأزمة تكلفة الدبلوماسية الانتقائية التي تدعي الحفاظ على النظام العالمي القائم على القواعد. هذا التحول في النظام الدولي، والبحث عن نظام عالمي متعدد الأقطاب، يطرح تحديات وفرصًا جديدة للفاعلين على الساحة الدولية، ويدعو إلى إعادة تقييم الأدوات والأساليب الدبلوماسية التقليدية.

وقد تجلى غياب الدور القيادي للولايات المتحدة بشكل ملحوظ في عدم مشاركتها في قمة مجموعة العشرين الأخيرة في جنوب أفريقيا، مما يؤكد تراجع النفوذ الأمريكي الأحادي القطب. وفي ظل هذه التطورات، تكتسب المنتديات الإقليمية، مثل المنتدى الدوحة، أهمية متزايدة في تقديم حلول دبلوماسية للأزمات الدولية.

تراجع الدبلوماسية الأحادية وظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب

لطالما اعتمدت الدبلوماسية الدولية، منذ نهاية الحرب الباردة، على نموذج “المفتاح الرئيسي” حيث تمارس قوة عظمى نفوذها لحل النزاعات من خلال الضغط السياسي أو الاقتصادي أو المساعدات المشروطة. ومع ذلك، أظهرت الأزمة في غزة أن هذا المفتاح لم يعد كافياً، وأن الاعتماد على قوة واحدة فقط يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأزمات وتعطيل جهود السلام.

القيود المفروضة على دور الأمم المتحدة

تواجه الأمم المتحدة تحديات متزايدة في تأكيد نفوذها في هذا المشهد المتغير، بسبب سياسات الدول المموله وتقويض الثقة بها. ومع ذلك، يمثل هذا التحول فرصة للأمم المتحدة لتجديد شرعيتها من خلال التعاون مع القوى الصاعدة، وتعزيز الشراكات الإقليمية، والدفاع عن تطبيق القانون الدولي بشكل عادل ومحايد.

وبينما قد يُنظر إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة على أنه تقدم، إلا أنه يعكس أيضًا أوجه القصور في الدبلوماسية القائمة على المصالح، والتي غالبًا ما تتجاهل الحقوق الأساسية للفلسطينيين. وقد أثارت هذه النقطة انتقادات واسعة النطاق، وتؤكد على الحاجة إلى مقاربة أكثر عدالة وشمولية في حل النزاعات الدولية.

يشير المفكر أنطونيو غرامشي إلى هذه المرحلة الانتقالية بأنها “فترة حكم بين العوالم”، حيث يتلاشى النظام القديم ويصعب تشكيل نظام جديد. وفي هذه الفراغ، تظهر بوادر من الفاشية المتجددة والقومية المتعصبة.

في غياب قيادة القوة العظمى، يصبح العالم أكثر تعقيدًا وتنافسية، مما يتطلب استراتيجيات جديدة للتأثير على نتائج النزاعات. إن عصر الرافعة الوحيدة يتلاشى، والمؤسسات التي تم تصميمها للقرن العشرين تكافح من أجل التكيف مع الواقع الجديد.

دور القوى الصاعدة في تعزيز الدبلوماسية

تظهر مراكز ثقل جديدة في السعي لتحقيق السلام والأمن الحقيقيين. وقد برزت الدوحة كمركز للوساطة، حيث استغلت قطر موقعها السياسي الفريد ومهاراتها الدبلوماسية لفتح قنوات للحوار بين الأطراف المتنازعة. وبالمثل، تعكس قضية جنوب إفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية ونظام لاهاي تحولًا في الشرعية الدولية نحو القوى التي تتبنى مواقف أكثر استقلالية.

يمكن للجنوب العالمي أن يشكل كتلة جيوسياسية قادرة على صياغة أجندتها الخاصة وتحديد شروطها. وقد أظهرت مجموعة بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) بالفعل هذه الإمكانات من خلال سعيها إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب وتحدي هيمنة العواصم الغربية.

ومع ذلك، أظهر التصويت الساحق في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح خطة الولايات المتحدة لغزة هشاشة هذا النظام الناشئ. وكشف الدبلوماسيون عن أن الدول انحنت للضغط الأمريكي، مما يؤكد أن المصالح الاقتصادية لا تزال تطغى على الحركات التي تدعو إلى التحرر من الاستعمار وإعادة تشكيل ميزان القوى.

إن الدبلوماسية، سواء مارسها الدول أو المنظمات متعددة الأطراف أو الجهات الفاعلة الأخرى، يجب أن تتجاوز منطق “المفتاح الرئيسي”. يجب أن تقوم على الصدق الأيديولوجي والمشاركة العملية، ومواجهة التباينات في الصراعات الحديثة، ورفض التصنيف المفرط للحركات باعتبارها “إرهابية”، والاعتراف بشرعية الهياكل السلطوية المتنوعة. تتطلب المشاركة العملية الاستعداد للحوار متعدد الأوجه مع جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة، بما في ذلك التحالفات الإقليمية والجماعات المسلحة والحركات المدنية.

في الختام، يشهد النظام الدولي تحولًا جذريًا يتطلب إعادة تقييم شاملة للدبلوماسية التقليدية. من المتوقع أن يناقش المنتدى الدوحة المقبل هذه التطورات ويقدم رؤى جديدة حول كيفية بناء عالم أكثر عدالة واستقرارًا. يبقى التحدي الأكبر هو ترجمة هذه الرؤى إلى إجراءات ملموسة، وضمان تحقيق تقدم حقيقي بعيدًا عن الوعود الفارغة. وتجدر الملاحظة أن مستقبل الدبلوماسية يعتمد على قدرة الفاعلين الدوليين على التكيف مع الواقع الجديد وتبني استراتيجيات جديدة تعكس موازين القوى المتغيرة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version