تواجه فرنسا جدلاً سياسياً متصاعداً حول مقترح الرئيس إيمانويل ماكرون لإنشاء “علامات” أو شهادات لمصادر الإعلام الموثوقة، بهدف مكافحة الأخبار المضللة. وقد أُسيء فهم هذا المقترح وتشويهه من قبل بعض وسائل الإعلام والسياسيين، مما أدى إلى اتهامه بالسعي نحو تقويض الديمقراطية وتعزيز السلطوية. وتأتي هذه الأزمة في وقت تشهد فيه العديد من الدول صراعات حول حرية الصحافة ومصداقية المعلومات.

بدأت شرارة الجدل بعد نشر صحيفة “Journal du Dimanche” المملوكة لرجل الأعمال فينسنت بولوريه، تقريراً زعمت فيه أن ماكرون يسعى إلى “السيطرة على وسائل الإعلام”. وقد ضخّن المعلق السياسي اليميني باسكال برود، الذي يعمل لدى محطتي CNews و Europe 1 – وهما أيضاً مملوكتان لبولوريه – هذا الادعاء، مشيراً إلى “ميل سلطوي” لدى الرئيس الفرنسي بسبب استيائه من التغطية الإعلامية.

الجدل حول مصداقية الإعلام و “العلامات” المقترحة

يرتكز مقترح ماكرون على فكرة تحديد وسائل الإعلام التي تلتزم بمعايير أخلاقية ومهنية عالية، وذلك من خلال عملية اعتماد يقوم بها متخصصون. ويهدف هذا الإجراء إلى مساعدة الجمهور على التمييز بين المصادر الإخبارية الموثوقة وتلك التي تنشر معلومات مضللة أو تفتقر إلى الشفافية.

خلال لقاء مع قراء صحيفة “La Voix du Nord” المحلية في 19 نوفمبر، دافع ماكرون عن أهمية التمييز بين “المواقع الإخبارية” و “الشبكات والمواقع التي تربح من الإعلانات”. وأكد أن المعلومات “مسألة خطيرة” وتتطلب وجود “قواعد أخلاقية”.

تصريحات ماكرون وتفسيراتها

شدد الرئيس الفرنسي على أنه “ليس من صلاحيات الحكومة أو الدولة أن تقول ما هي المعلومات وما هي ليست كذلك”. وأضاف أن السعي إلى ذلك “سيكون فخاً، لأنه ليس هذا هو الديمقراطية، وإلا فسننتهي بسرعة إلى نظام سلطوي”.

واستشهد ماكرون بمبادرة “Journalism Trust Initiative” (JTI) كمثال على آلية الاعتماد التي يمكن تطبيقها. تم إطلاق هذه المبادرة في عام 2021 من قبل منظمة “مراسلون بلا حدود”، وتركز على تقييم كيفية إنتاج المحتوى الصحفي والالتزام بالأخلاقيات المهنية، بدلاً من الحكم على المحتوى نفسه.

تضم لجنة تطوير معايير الاعتماد أكثر من 130 خبيراً من الصحفيين والمؤسسات التنظيمية والناشرين وشركات التكنولوجيا. وبحسب بنجامان ساباه، مدير مبادرة JTI، فإن الهدف من هذه الشهادات هو “تحديد المصادر الإخبارية الموثوقة وتعزيزها” في محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعي.

حتى الآن، شارك أكثر من 2400 مؤسسة إعلامية في 127 دولة في مبادرة JTI. وأوضح ساباه أن المبادرة لم تكن مصممة في الأصل لمكافحة المعلومات المضللة، ولكنها تطورت لتصبح أداة مهمة في هذا المجال “ضرورةً”.

في المقابل، اتهم حزب “Les Républicains” المحافظ ماكرون بتقويض الديمقراطية من خلال السعي إلى تأسيس “حقيقة رسمية”. وقد جمعت عريضة أطلقها الحزب أكثر من 42 ألف توقيع، معتبراً أن خطط ماكرون تهدف إلى التمييز بين وسائل الإعلام “الجيدة” و “السيئة”.

كما أطلق حزب “Union des droites pour la République” المحافظ عريضة مماثلة جمعت أكثر من 41 ألف توقيع، زاعمة أن السلطة التنفيذية الفرنسية تحاول إنشاء “وزارة للحقيقة” ودعت إلى التخلي عن مشروع “العلامات”.

ردّت الرئاسة الفرنسية (الإليزيه) على هذه التصويرات غير الدقيقة لمقترحات ماكرون، من خلال نشر مقطع فيديو على منصة X (تويتر سابقاً) يضم لقطات من عناوين إخبارية وبيانات معلقين سياسيين، مقارنةً بتسجيلات فيديو أصلية لتصريحات ماكرون. واستُخدمت عبارة “Pravda? وزارة الحقيقة؟ عندما يؤدي الحديث عن مكافحة التضليل إلى التضليل…” في المنشور.

تأتي هذه المحاولة من الإليزيه لتوضيح سياق التصريحات الأصلية، وتأكيد أن الهدف ليس فرض رقابة حكومية على وسائل الإعلام، بل تعزيز الشفافية والمصداقية في مجال المعلومات. ويعتبر هذا الجدل جزءاً من نقاش أوسع حول دور وسائل الإعلام في الديمقراطية، وتأثير المعلومات المضللة على الرأي العام.

من المتوقع أن تستمر المناقشات حول مقترح ماكرون في الأسابيع القادمة، مع احتمال تقديم الحكومة لمزيد من التفاصيل حول آليات الاعتماد المقترحة. وسيكون من المهم مراقبة ردود فعل وسائل الإعلام والسياسيين والمجتمع المدني، وتقييم مدى إمكانية تطبيق هذا المقترح على أرض الواقع دون المساس بحرية الصحافة والاستقلالية الإعلامية. كما يجب متابعة تطور مبادرة JTI ومدى تأثيرها على مصداقية وسائل الإعلام.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version