تعتبر القدرة على التقمص والاندماج في الشخصية من أهم صفات الممثلين الموهوبين، ولكن هناك فنانين يتجاوزون حدود “الأداء” ليقدموا تجسيدًا حيًا يجعل المشاهد يصدق أنهم يعيشون الدور بكل تفاصيله. النجمة الفرنسية جولييت بينوش، التي يكرمها مهرجان البحر الأحمر السينمائي، هي واحدة من أبرز هذه الممثلات، وتشتهر بمدرستها في “التقمص الكامل” التي تجعلها تبدو وكأنها الشخصية نفسها، وليست مجرد مؤدية لها.

بينوش، التي بدأت مسيرتها الفنية في الثمانينيات، استطاعت على مر العقود أن تثبت نفسها كواحدة من أعظم ممثلات جيلها، وأن تترك بصمة لا تُمحى في السينما العالمية. هذا التكريم في مهرجان البحر الأحمر هو اعتراف بمسيرتها الفنية المتميزة وإسهاماتها الكبيرة في عالم السينما.

جولييت بينوش: أكثر من مجرد ممثلة

قد يشعر المشاهد، بعد مشاهدة فيلم مقتبس عن رواية أدبية، أن أداء جولييت بينوش لشخصيتها قد صُقل خصيصًا لتناسبها. هذا الشعور بالانسجام التام بين الممثلة والدور هو ما يميزها عن غيرها. ففي فيلم “خفة الوجود التي لا تحتمل” المقتبس عن رواية ميلان كونديرا، بدا وكأن شخصية تيريزا قد وُلدت لكي تجسدها بينوش، وهو نفس الانطباع الذي يتركه أداء دانيال داي لويس لشخصية توماش.

هذا التجسيد الكامل للشخصية يذكرنا بأداء يحيى شاهين لشخصية السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، حيث بدا وكأن الشخصية قد خرجت من بين صفحات الرواية لتسير بيننا. حتى أن بعض الحكايات تذكر أن الممثل محمود مرسي، الذي لعب دور السيد في مسلسل تلفزيوني، كان يرى أن الشخصية كانت تبحث عن يحيى شاهين، بينما هو كان يبحث عنها طوال العمل.

التقمص الكامل: رحلة إلى أعماق الشخصية

لا تكتفي جولييت بينوش بتقديم أداء مقنع، بل تتعمق في فهم دوافع الشخصية ومشاعرها وخلفياتها، وتسعى إلى تجسيدها بأكبر قدر ممكن من الدقة والواقعية. هذا النهج يظهر بوضوح في فيلم “The English Patient”، حيث قدمت شخصية هانا، ملاك الرحمة التي تعتني بالجندي المحترق، بطريقة جعلت المشاهدين يشعرون بمعاناتها وألمها.

هذا الأداء المميز لم يمر مرور الكرام، حيث فازت بينوش بجائزة أفضل ممثلة من مهرجان برلين، ثم بجائزة البافتا، وتوجت في نهاية العام بجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة في دور ثانٍ. هذه الجوائز هي دليل على موهبتها الفذة وقدرتها على التأثير في المشاهدين.

مسيرة فنية حافلة

على مدار أربعة عقود، شاركت جولييت بينوش في أكثر من 70 فيلمًا، وعملت مع كبار المخرجين في العالم. لم تقتصر أعمالها على السينما الفرنسية، بل امتدت لتشمل السينما الأمريكية والإيطالية والبلجيكية واليابانية والإيرانية، مما جعلها ممثلة عالمية بكل المقاييس.

من بين أبرز المخرجين الذين عملت معهم ليوس كاراكس، وأندريه تشيينيه، وكريستوف كيشلوفسكي، وديفيد كروننبرج، وتران آن هونج، وعباس كياروستامي. هذا التنوع في اختياراتها يعكس ذوقها الرفيع ورغبتها في تقديم أعمال مختلفة ومبتكرة.

بينوش والسينما الأوروبية

تعتبر جولييت بينوش رمزًا للسينما الأوروبية، وقد ساهمت في نشر الثقافة الفرنسية في جميع أنحاء العالم. أعمالها غالبًا ما تتناول قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية، وتتميز بالعمق والجرأة والصدق. كما أنها لا تخشى تجسيد الأدوار الصعبة والمثيرة للجدل، مما يجعلها ممثلة فريدة من نوعها.

أحد الأمثلة على ذلك هو دورها في فيلم “Camille Claudel 1915″، حيث قدمت قصة النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل التي عانت من مرض عقلي وقضت سنوات طويلة في المصحات. هذا الفيلم هو شهادة على قدرة بينوش على تجسيد المشاعر الإنسانية المعقدة بطريقة مؤثرة ومقنعة.

مستقبل جولييت بينوش في السينما يبدو واعدًا، ومن المتوقع أن تستمر في تقديم أعمال فنية متميزة تساهم في إثراء السينما العالمية. من المؤكد أننا سنرى المزيد من الأدوار التي ستثبت موهبتها وقدرتها على التقمص والاندماج في الشخصيات المختلفة. ما يجب أن نراقبه هو تعاوناتها المستقبلية مع مخرجين جدد، واختياراتها للأدوار التي ستتحدى قدراتها وتزيد من تألقها كممثلة.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version