في وقت تتفاقم فيه الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، وبينما كانت عشرات السفن المشاركة في أسطول “الصمود العالمي” تستعد للإبحار من ميناء برشلونة باتجاه غزة، اندفعت حملة رقمية إسرائيلية واسعة على منصات التواصل، تشمل تهديدات علنية ورسائل متعددة اللغات استهدفت المشاركين ومبادرتهم.

وسعت الحملة الإسرائيلية إلى تشويه صورة الأسطول الذي يضم متضامنين من نحو 50 دولة على متن أكثر من 50 سفينة، في محاولة لإجهاض تحرك إنساني يهدف إلى كسر الحصار المفروض على القطاع الفلسطيني المنكوب وإنهاء سياسة التجويع التي تطال أكثر من مليوني إنسان.

وفي هذا التقرير، يتتبع فريق “الجزيرة تحقق” الأذرع الرسمية وغير الرسمية التي قادت حملة “شيطنة الأسطول” ويكشف كيف جرى تحويل “أسطول أمل” الذي يمثل مبادرة إنسانية عالمية إلى ما جرى وصفه إسرائيليا بأنه “أسطول إرهاب”.

كما يفكك “الجزيرة تحقق” أدوات الدعاية التي صاغت هذه الحملة، ونرصد الجهات التي دفعت بها وساهمت في انتشارها، إضافة إلى المعلومات الزائفة التي رافقت مسارها.

تضليل رقمي

مطلع سبتمبر/أيلول الجاري، كشف فريق “الجزيرة تحقق” عن سيل من المعلومات المضللة والروايات الزائفة التي رافقت الحملة الإسرائيلية المضادة لـ”أسطول الصمود” على المنصات الرقمية.

وقادت هذه الحملة شخصيات رسمية، وجهات مقرها تل أبيب مدعومة بحسابات إسرائيلية موثقة على منصة “إكس” في إطار جهد منسق لإضعاف المبادرة الإنسانية وتشويه أهدافها.

وعملت هذه الحسابات بشكل ممنهج على ربط الأسطول العالمي بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالزعم أنه ممول من قِبلها، أو الادعاء بأن حماس تدفع بالمؤثرين البارزين إلى واجهة المشهد الإعلامي الدولي وتدير العرض من وراء الستار.

تحليل شبكي

أجرى “الجزيرة تحقق” تحليلا لعينة من التغريدات بلغات متعددة شملت أكثر من 3600 حساب وقرابة 4 آلاف تفاعل، وأظهر أن الحملة تمحورت حول 17 حسابا مؤثرا، تبين أن 10 منها تروج بشكل مباشر أو غير مباشر للرواية الإسرائيلية.

كما رصدت مصطلحات ثابتة تكررت بكثافة مثل “غطاء لحماس” و”داعمو الإرهاب” و”سفراء حماس” ويكشف ذلك عن خطاب منسق لا يقتصر على التحريض باللغة الإنجليزية بل جرى تكييفه وإعادة إنتاجه بلغات أخرى.

تحليل شبكي لعينة من التغريدات المرتبطة بـ”أسطول الحرية” (نود إكسل)

وفي تتبع للأذرع الإعلامية الإسرائيلية التي قادت الحملة الرقمية ضد قافلة “الصمود” برزت مجموعة من الحسابات التي شكلت أعمدة رئيسية في نشر الخطاب التحريضي وتضخيمه.

وفي المقدمة تصدر حساب “فيفيد بروفيس” (Vividprowess) وهو غامض الهوية لكنه شديد النشاط، إذ اعتمد على إعادة تدوير المحتوى التحريضي وتضخيمه رقميا ليظهر كأكثر الحسابات تأثيرا في الشبكة، وقد تحول عمليا إلى “مضخة دعائية” تعيد نشر الرواية الإسرائيلية بلغات متعددة، مما ضاعف من حضورها وانتشارها.

أما حساب “شيريل إي” (Cheryl E) فمثل وجها رقميا بارزا داخل الدوائر المؤيدة لإسرائيل، وشارك في الحملة عبر محتوى ساخر ومضلل استهدف القافلة والناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، مجسدا دور “المؤثر غير الرسمي” الذي يضفي تنوعا على الخطاب ويمنحه مظهرا مستقلا، رغم ارتباطه الواضح بالموجة الدعائية الإسرائيلية.

كما لعب حساب “تعليقات الموساد” (Mossad Commentary) -المعروف بخطابه الدعائي الموجه- دورا محوريا في شيطنة القافلة، وركز على تصوير أي مبادرة تضامنية مع غزة باعتبارها غطاء لـ”الإرهاب” مستخدما لغة هجومية وساخرة، مما جعله من أبرز العقد المركزية بالشبكات الرقمية وقت الأزمات.

وإلى جانب ذلك، نشط الأميركي “إيال ياكوبي” (Eyal Yakoby) بكثافة في الحملة، معتمدا خطابا مباشرا يقوم على التحريض وربط كل فعل تضامني مع غزة بحركة حماس أو بما يصفه بـ”الإرهاب الإسلامي” ليكمل بذلك منظومة الخطاب التي سعت إلى تجريم قافلة المساعدات ونزع شرعيتها.

استهداف المشاركين

لم تقتصر الحملة الإسرائيلية على التحريض العام، بل استهدفت شخصيات بعينها، وفي مقدمتها رئيس اللجنة الدولية لكسر الحصار زاهر بيراوي، حيث قادت منظمة “عاد كان” (Ad Kan) -التي تضم ضباطا وخريجي وحدات استخبارات إسرائيلية- حملة منظمة ضده عبر نشر صور له مع مشاركين بالأسطول على أنها “أدلة سرية” ولقطات جرى إخراجها من سياقها لتستخدم أداة لإضفاء صبغة أمنية على مبادرة تضامنية ذات طابع إنساني.

تفنيد الرواية الإسرائيلية

فريق “الجزيرة تحقق” كشف أن هذه الصور منشورة أصلا على الصفحات الرسمية للجنة منذ سنوات، في إطار نشاطها العلني، كما يظهر بيراوي في صور تعود لعام 2018 مع طاقم سفينة “حرية” في ميناء برايتون البريطاني، خلال جولة علنية ضد الحصار.

وتفند هذه المعطيات رواية منظمة “عاد كان” وتؤكد أن وجود بيراوي في صور مع مشاركين في “أسطول الصمود” الأخير ينسجم مع دوره المعروف والعلني، ولا يمثل بأي حال دليلا على ما تروج له الدعاية الإسرائيلية.

ويوضح هذا النمط من الحملات أن الهجوم الأخير ليس سوى جزء من إستراتيجية ممنهجة تستهدف شخصيات قيادية في حركات التضامن الدولية، عبر إعادة تدوير الاتهامات ذاتها لتقويض شرعية المبادرات الإنسانية.

وبموازاة ذلك، شاركت حسابات إسرائيلية وغربية في إعادة تداول تقرير نشرته قناة “إل سي آي” (LCI) الفرنسية في 13 يونيو/حزيران الماضي، تناول الدور البارز للناشط الفلسطيني البريطاني بيراوي في تنظيم “أسطول الحرية” الذي أبحر من ميناء جزيرة صقلية الإيطالية مطلع يونيو/حزيران الماضي، متجها نحو غزة.

ورغم أن إسرائيل دأبت على اتهام بيراوي منذ سنوات بأنه “ممثل لحماس في أوروبا” شدد التقرير الفرنسي على أن هذه المزاعم لم تثبت قضائيا لا في بريطانيا ولا أي دولة أخرى.

وأشار إلى أن بيراوي سبق أن كسب دعوى قضائية ضد قاعدة بيانات “وورلد تشيك” (World-Check) التي صنفته زورا باعتباره مرتبطا بالإرهاب، وهو ما يعكس غياب أي دليل قانوني يدعم الاتهامات الإسرائيلية.

لكن مع انطلاق “أسطول الصمود” الجديد، استغلت الحسابات الإسرائيلية والغربية نشر التقرير لتعيد صياغته خارج سياقه، مركزة على الرواية الإسرائيلية ومهملة الحقائق التي أوردها، وذهبت هذه الحسابات إلى حد توجيه الشكر للصحفية الفرنسية كارولين فوريست على “تذكيرها” بأن بيراوي هو “العقل المدبر للأسطول” وأحد ممثلي حماس في بريطانيا، وقدمت ذلك وكأنه حقيقة مطلقة، في تجاهل كامل لما عرضه التقرير من معطيات تفند هذا الادعاء.

تشويه غريتا ثونبرغ

بالتوازي مع استهداف القائمين على “أسطول الصمود” وجهت الحسابات الإسرائيلية سهامها نحو المشاركين بالقافلة، وكان النصيب الأكبر من الهجوم من نصيب الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ التي يتابعها أكثر من مليون شخص على منصة “إنستغرام”.

فقد تحولت ثونبرغ إلى هدف مباشر لحملة تشويه عنيفة، حيث أعادت بعض الحسابات نشر صور مركبة لها بملامح أدولف هتلر، في محاولة لربطها بالنازية ووصمها بدعم “الإرهابيين” وترافق ذلك مع موجة تحريض علني، إذ كتب أحد الحسابات مخاطبا جمهوره “ثونبرغ ستذهب إلى غزة مرة أخرى بالقارب، ماذا تتمنون لها؟” في إشارة صريحة لتحريض المتابعين ضدها.

ويعكس هذا الاستهداف بوضوح أن الحملة لم تقتصر على شيطنة الأسطول، بل امتدت إلى تجريم رموز التضامن الدولي عبر السخرية والتحريض الشخصي، في محاولة لردع الأصوات المؤيدة لغزة ووصمها بالعداء واللاشرعية.

خطاب تحريض رسمي

لم تقتصر الحملة الإسرائيلية على الحسابات غير الرسمية، بل جاءت مدعومة بخطاب سياسي رسمي استبق لحظة الإبحار، إذ ذكرت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية أن وزير الأمن إيتمار بن غفير أعد خطة لمعاقبة المشاركين في أسطول الصمود، بعد أن وصفهم بـ”المتعاونين مع حماس”.

معاريف تقول إن بن غفير أعد خطة لمعاقبة المشاركين في اسطول الصمود (معاريف)
معاريف: بن غفير أعد خطة لمعاقبة المشاركين بأسطول الصمود (معاريف)

 

وتتضمن الخطة المصادرةَ الفورية للسفن المشاركة في كسر الحصار، وتحويلها إلى ملكية الشرطة الإسرائيلية، كما تشمل سجن النشطاء في ظروف مشابهة للأسرى الأمنيين داخل سجني كتسيعوت والدامون لفترة طويلة الأمد.

 

تفاعل عالمي

في المقابل، حصد أسطول “الصمود العالمي” زخما واسعا على المستويين الشعبي والرقمي، فقد شاركت فيه شخصيات فنية وحقوقية بارزة، من بينها الممثلة الأميركية الحائزة على الأوسكار سوزان ساراندون، والممثل السويدي غوستاف سكارسغارد، والأيرلندي ليام كانينغهام.

ويأتي ذلك وسط دعم منظمات حقوقية وتفاعل جماهيري واسع في دول أوروبية عدة لمهمة الأسطول في كسر الحصار الإسرائيلي، والتأكيد على الحق الإنساني لأكثر من مليوني فلسطيني في الغذاء والدواء.

 

ولم يقتصر الدعم الرقمي للأسطول على الترند الإسباني فحسب، إذ رصد فريق “الجزيرة تحقق” صعود اسم “غزة” إلى مرتبة متقدمة في إسبانيا بـ12.8 مليون تغريدة، كما احتل وسم “غريتا ثونبرغ” المركز 19 بأكثر من 2.3 مليون تغريدة خلال نحو 20 ساعة متواصلة.

وفي إيطاليا، وصل وسم “غريتا” (Greta) إلى المرتبة 13 بـ 2.3 مليون تغريدة خلال 17 ساعة، مما يعكس حجم الزخم الذي حصدته مشاركة هذه الناشطة بأسطول “الصمود العالمي”.

وقد انطلقت قافلة “الصمود العالمية” لكسر حصار غزة من ميناء برشلونة الإسباني صباح الأحد الماضي، متجهة نحو القطاع المحاصر، مرورا بتونس، وتضم 24 سفينة مختلفة الأحجام.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version