في ظل تصاعد التوترات في منطقة البحر الكاريبي، عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري بشكل ملحوظ، في إطار ما تصفه بـ”الحرب على قوارب المخدرات” القادمة من السواحل الفنزويلية. هذه التحركات أثارت مخاوف متزايدة بشأن إمكانية تدخل أوسع في فنزويلا، خاصةً مع استمرار التهديدات العلنية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشن عمليات عسكرية في الأراضي الفنزويلية. وتتزايد التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الاستراتيجية العسكرية تهدف إلى تحقيق مكاسب أمنية حقيقية أم أنها تمثل أداة ضغط سياسي تستهدف حكومة الرئيس نيكولاس مادورو.

وتأتي هذه التطورات في وقت تشهد فيه العلاقات بين واشنطن وكاراكاس تدهوراً حاداً، حيث تتهم الولايات المتحدة مادورو بتمويل الإرهاب وتسهيل تهريب المخدرات، بينما تتهم فنزويلا الولايات المتحدة بالتدخل في شؤونها الداخلية ومحاولة الإطاحة بحكومتها الشرعية. وقد كشفت تقارير إعلامية عن قنوات اتصال خلفية بين إدارتي ترمب ومادورو، في محاولة لتجنب التصعيد، لكن دون تحقيق أي تقدم ملموس حتى الآن.

الوجود العسكري الأميركي في فنزويلا: دوافع وتداعيات

منذ بداية شهر سبتمبر الماضي، نفذت القوات الأميركية حوالي 21 ضربة جوية استهدفت قوارب يُشتبه في استخدامها في تهريب المخدرات في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ. وقد أسفرت هذه الضربات عن مقتل أكثر من 80 شخصاً، وهو ما بررته إدارة ترمب بالسعي إلى مكافحة عصابات المخدرات وتجفيف منابع تمويلها. لكن هذه العمليات أثارت انتقادات واسعة النطاق من قبل منظمات حقوق الإنسان التي دعت إلى تحقيق شفاف في ملابساتها.

تصاعدت حدة الخطاب الأميركي تجاه فنزويلا بعد سلسلة من العمليات التي تستهدف ما يسمى بـ”كارتل دي لوس سوليس” (Cartel de los Soles)، وهو الاسم الذي تستخدمه واشنطن للإشارة إلى شبكة يُزعم أنها تضم مسؤولين فنزويليين كباراً متورطين في تجارة المخدرات. في شهر أغسطس، رفعت الولايات المتحدة قيمة المكافأة التي تعرضها لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو إلى 50 مليون دولار، بدعوى تورطه في تهريب المخدرات وعلاقاته مع عصابات إجرامية. كاراكاس رفضت هذه الإعلانات واعتبرتها “خدعة سخيفة”.

وفي خطوة تصعيدية أخرى، دعا الرئيس ترمب إلى اعتبار المجال الجوي الفنزويلي ومحيطه “مغلقاً بالكامل”، مما أثار المزيد من القلق بشأن احتمال تدخل عسكري أميركي مباشر في فنزويلا. التهديدات المتزايدة هذه، كما يرى العديد من المحللين، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن السياق السياسي الداخلي في الولايات المتحدة، حيث يسعى ترمب إلى استعراض قوته وإثبات قدرته على حماية مصالح بلاده.

مخاوف من تصعيد عسكري وتدخل في السيادة

أعرب العديد من أعضاء الكونجرس الأميركي عن قلقهم من احتمال انزلاق الولايات المتحدة إلى صراع عسكري جديد في فنزويلا. وقد قدم عدد من أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري مشروع قرار يهدف إلى منع أي عمل عسكري ضد فنزويلا دون الحصول على موافقة الكونجرس.

يقول جيمس جاتراس، المستشار السابق في قيادة الحزب الجمهوري بمجلس الشيوح، إن تهديدات ترمب “جادة للغاية”، موضحاً أنها قد تهدف إلى إجبار حكومة مادورو على “الاستسلام”. ويضيف: “إذا لم يحصلوا على ذلك، أعتقد أنهم مستعدون للتحرك بشكل محدود، بعدما قاموا بكل الاستعدادات اللازمة للهجوم على فنزويلا في تلك الحالة”.

في المقابل، يرى توماس كنتريمان، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون الأمن الدولي، أن تهديدات ترمب قد تكون مجرد “استراتيجية سياسية” تهدف إلى ممارسة الضغط على مادورو وإجباره على تقديم تنازلات. ويشير إلى أن ترمب “يحب إطلاق التهديدات، ولا سيما ضد من هم أقل قوة منه”، وأنه من الصعب التنبؤ بخططه الحقيقية.

التهديدات وبحثاً عن مخرج سياسي

لطالما اتهمت واشنطن مادورو وحلفاءه بالإرهاب المرتبط بالمخدرات والفساد، ووجهت وزارة العدل الأميركية اتهامات للرئيس الفنزويلي و14 مسؤولاً بالتعاون مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية “تنظيم فارك” لاستخدام المخدرات كسلاح في “إغراق” الولايات المتحدة. لكن العديد من الخبراء يشككون في صحة هذه الادعاءات، ويقولون إنها مجرد ذريعة لتبرير التدخل الأميركي في فنزويلا.

ويشير دانيال سيروير، المستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية، إلى أنه “لا يوجد أي دليل على أن التهريب من فنزويلا يمثل مشكلة خطيرة”، وأن “فنزويلا لا تلعب دوراً في تهريب أخطر المخدرات إلى الولايات المتحدة وهي الفنتانيل”. ويضيف أن ترمب قد يسعى إلى الوصول إلى موارد النفط الفنزويلية، أو إلى صرف الأنظار عن مشكلاته الداخلية.

الوضع الحالي في فنزويلا يمثل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة، حيث لا يمكن تجاهل التداعيات الإقليمية والدولية المحتملة لأي عمل عسكري. ويتوقع المحللون أن تشهد الأيام القادمة مزيداً من المفاوضات والاتصالات بين واشنطن وكاراكاس، في محاولة لتجنب التصعيد وإيجاد حل سياسي للأزمة. في الوقت الحالي، يبدو السيناريو الأكثر ترجيحاً هو احتمال حدوث انقلاب داخلي في فنزويلا، حيث يسعى الجيش الفنزويلي للإطاحة بمادورو وتقديم تنازلات للولايات المتحدة.

يبقى المشهد في فنزويلا متدفقاً، ومن المتوقع أن تواصل الولايات المتحدة ممارسة الضغوط على حكومة مادورو. يجب متابعة تطورات الوضع عن كثب، وخاصةً أي تحركات عسكرية أميركية جديدة، أو أي تغييرات في موقف الكونجرس من التدخل في فنزويلا. ويتوقع أن تكون الفترة القادمة حاسمة في تحديد مستقبل العلاقات بين البلدين، ومستقبل الاستقرار في منطقة البحر الكاريبي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version