شهدت ألمانيا تحولاً ملحوظاً في سياساتها الدفاعية، مدفوعة بالتوترات الأمنية المتزايدة في أوروبا، خاصةً عقب الحرب في أوكرانيا. تتجه الحكومة الألمانية نحو تعزيز قدراتها العسكرية وتحديث نظام التجنيد، في خطوة يعزوها مراقبون إلى ضغوط سابقة من الولايات المتحدة لزيادة مساهمة ألمانيا في الدفاع المشترك، وتهديدات متصاعدة من روسيا. هذا التحول في الجيش الألماني يثير تساؤلات حول مستقبل الأمن الأوروبي والتحالفات العسكرية.
تعزيز الجيش الألماني: استجابة للتهديدات المتزايدة
أعلنت الحكومة الألمانية عن سلسلة من الحوافز لتشجيع التطوع في الخدمة العسكرية، وذلك في إطار سعيها لزيادة عدد الجنود والقوى العاملة في الجيش الألماني. تشمل هذه الحوافز توفير التراخيص اللازمة للحصول على رخصة قيادة مجانًا، بالإضافة إلى زيادة الرواتب الأولية للمتطوعين لتصل إلى حوالي 3000 دولار شهريًا قبل الضرائب. يهدف هذا الإجراء إلى جذب الشباب وتشجيعهم على الانضمام إلى القوات المسلحة.
خطة التحول الدفاعي
صرح المستشار الألماني فريدريش ميرز بأن الجيش الألماني سيتحول إلى “أقوى جيش تقليدي في أوروبا”، مشيرًا إلى أن هذا التحول يتطلب جهودًا مكثفة لزيادة الاستثمار في المعدات والتكنولوجيا العسكرية، بالإضافة إلى تطوير القوى البشرية. ويرى ينس شبان، القيادي في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، أن الهدف هو استقطاب أكبر عدد ممكن من الشباب للخدمة العسكرية.
ومع ذلك، يرى شبان أنه في حال عدم كفاية أعداد المتطوعين، قد تضطر الحكومة إلى النظر في تطبيق نظام التجنيد الإجباري، الأمر الذي يتطلب سن قانون جديد. هذا التصريح يعكس جدية الحكومة في التعامل مع التحديات الأمنية المتزايدة.
هذه الخطوات تأتي بعد سنوات من جدل حول الإنفاق الدفاعي الألماني، حيث انتقدت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا ألمانيا لعدم التزامها بالحد الأدنى المطلوب من الإنفاق على الدفاع، وهو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، كما نصت عليه اتفاقيات حلف شمال الأطلسي (الناتو).
تحول في الرؤية الأوروبية للأمن
يرى خبراء عسكريون أن هذه التطورات تشير إلى تحول في النظرة الأوروبية للأمن، حيث بدأت الدول الأوروبية في إدراك أهمية الاستعداد العسكري في مواجهة التهديدات المتزايدة. يشير ديفيد وورمسر، وهو ضابط مخابرات سابق في البحرية الأمريكية ومستشار سابق لنائب الرئيس ديك تشيني، إلى أن أوروبا “بدأت أخيراً في التفكير في الدفاع بطريقة أكثر جدية”، بعد أن اعتمدت لعقود على “المظلة الأمريكية” وأهملت تطوير قدراتها الدفاعية الخاصة.
ويضيف وورمسر أن الأحداث الأخيرة، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط، كشفت عن الحاجة إلى دفاع أوروبي أقوى، وأن ألمانيا تتخذ خطوات مهمة في هذا الاتجاه، مما يعكس تحولًا في مركز الثقل الحضاري الأوروبي نحو الشرق. ويربط وورمسر هذه التطورات بمواجهة الغرب لتحالف غير تقليدي يجمع بين الأفكار الشيوعية والإسلامية والفاشية، والذي يهدف إلى تقويض الحضارة الغربية.
هذا التحول يعكس أن الجيش الألماني لم يعد ينظر إليه كأداة للدفاع عن الأراضي الألمانية فحسب، بل كجزء أساسي من الأمن الأوروبي الأوسع. وبالإضافة إلى ذلك، يمثل استثماراً في القدرات العسكرية تعزيزاً لمكانة ألمانيا كقوة اقتصادية وسياسية رئيسية في القارة.
التحديات المستقبلية والردود المحتملة
بينما تستعد ألمانيا لتعزيز الجيش الألماني، فإن هناك تحديات كبيرة تواجهها، بما في ذلك الحاجة إلى تحديث المعدات العسكرية، وتوفير التدريب اللازم للقوات المسلحة، والتغلب على أي معارضة داخلية محتملة لزيادة الإنفاق الدفاعي. من المتوقع أن يناقش البرلمان الألماني تفاصيل خطة تحديث الجيش في الأشهر القادمة، ومن المرجح أن يشهد هذا النقاش جدلاً حادًا بين الأحزاب المختلفة.
ومع ذلك، يرى المراقبون أن ألمانيا ملتزمة بتعزيز قدراتها الدفاعية، وأن هذه الخطوات ستؤدي إلى تحسين الأمن والاستقرار في أوروبا. تعتبر هذه التطورات بمثابة إشارة واضحة إلى أن أوروبا بدأت تأخذ مسؤولية أمنها على محمل الجد، وأنها مستعدة للاستثمار في الدفاع لحماية مصالحها وقيمها. الخطوة التالية المتوقعة هي تقديم مشروع قانون التجنيد الإجباري إلى البرلمان، إذا لم يحقق التطوع النتائج المرجوة، ومراقبة ردود الفعل من داخل ألمانيا وبين حلفائها في الناتو.

