على الرغم من الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة والأوضاع الاقتصادية والإنسانية المتردية التي يعيشها السكان، كشفت بيانات حديثة صادرة عن سلطة النقد الفلسطينية عن ارتفاع ملحوظ في حجم ودائع المواطنين في البنوك المحلية، وهو أمر يبدو متناقضًا مع الظروف القاسية التي يمر بها القطاع. هذا الارتفاع يثير تساؤلات حول طبيعة هذه الزيادة وأسبابها الحقيقية.
أظهرت البيانات قفزة غير مسبوقة في إجمالي الودائع في البنوك الفلسطينية من 16 إلى 22 مليار دولار خلال فترة الحرب. وفي قطاع غزة تحديدًا، ارتفعت الودائع من 1.74 مليار دولار في أكتوبر 2023 إلى 4.84 مليار دولار في نهاية أغسطس 2024، مسجلةً زيادة بنسبة 178%. هذا النمو الكبير يثير الدهشة في ظل الدمار الشامل الذي لحق بالبنية التحتية والاقتصاد في غزة.
ودائع البنوك في غزة: وهم أم واقع؟
وفقًا لمسؤولين وخبراء اقتصاديين، فإن هذه الطفرة في الودائع ليست نموًا حقيقيًا للاقتصاد، بل هي نتيجة مباشرة للقيود المفروضة على سحب الأموال من البنوك بسبب الحرب. يشير الخبراء إلى أن حوالي 100 ألف موظف ومتقاعد يتلقون رواتبهم الشهرية من الحكومة، بالإضافة إلى موظفي القطاع الخاص والعاملين في الهيئات الدولية، والمواطنين الذين تلقوا مساعدات مالية من الخارج، وجدوا أنفسهم غير قادرين على صرف هذه الأموال.
أوضح مسؤول حكومي فلسطيني أن الحكومة تواصل دفع رواتب شهرية بقيمة 265 مليون شيكل (حوالي 73 مليون دولار أمريكي) للموظفين والمتقاعدين في غزة، مما يعني أن ما يقرب من ملياري دولار دخلت حساباتهم المصرفية خلال فترة الحرب دون أن يتمكنوا من استخدامها. وأضاف أن بعض المواطنين قاموا بإجراء عمليات شراء محدودة من خلال التطبيقات الإلكترونية، مما أبقى الأموال داخل النظام المصرفي.
تأثير القيود على السيولة النقدية
تسببت الحرب في توقف شبه كامل للحركة التجارية والاستثمارية في غزة، مما دفع المواطنين إلى الاحتفاظ بأموالهم في البنوك كخيار آمن. يرى الدكتور مازن العجلة، الخبير الاقتصادي والمحاضر في جامعة الأزهر بغزة، أن وجود 5 مليارات دولار في البنوك لا يعكس الواقع الاقتصادي المأساوي في القطاع، بل يعكس “شللاً اقتصاديًا” تامًا.
بالإضافة إلى ذلك، ساهم تدفق التحويلات المالية من المغتربين الفلسطينيين في الخارج في زيادة الودائع، في حين أن نقص السيولة النقدية (الكاش) في البنوك حال دون سحب هذه الأموال. أكد الخبير الاقتصادي مؤيد عفانة أن الحرب أدت إلى توقف الحركة التجارية وتراجع الدخل القومي الإجمالي بنسبة 29%.
الوضع المصرفي في غزة: دمار وتحديات
قبل الحرب، كان يعمل في قطاع غزة 10 بنوك تدير 57 فرعًا، تعرض معظمها لأضرار بالغة خلال العدوان الإسرائيلي. حاليًا، يحاول عدد قليل من الفروع تقديم خدمات محدودة للعملاء، في ظل رفض إسرائيل ضخ أي سيولة نقدية إلى البنوك. وفقًا لمسؤول حكومي، استأنف 10 فروع فقط عملها بعد الحرب، وتتعامل هذه الفروع بشكل أساسي مع التحويلات الإلكترونية.
تضرر بنك الأردن بشكل كبير، حيث دُمرت جميع مقراته الثلاثة في غزة. كما تعرض البنك المصري العقاري لأضرار جسيمة، حيث دُمرت 4 من أصل 5 مقرات له. لم تسلم أي من البنوك العاملة في غزة من الأضرار، باستثناء بعض الفروع في دير البلح والنصيرات. أشار مسؤول في سلطة النقد إلى أن السلطات الإسرائيلية لم تسمح حتى الآن بنقل الأموال النقدية إلى البنوك في غزة، مما يعيق قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين.
خسائر البنوك وتجار الحرب
لم يتم حتى الآن حصر الخسائر الكاملة التي لحقت بالقطاع المالي في غزة، بما في ذلك الأموال المفقودة والودائع العينية المسروقة. تشير التقديرات إلى أن ملايين الدولارات من الودائع تعرضت للسرقة خلال الحرب. أفاد مسؤول في بنك فلسطين أن الإيداعات النقدية زادت خلال الحرب بسبب عدم توفر الأمان وعدم وجود خيارات أخرى للمواطنين والتجار.
شهدت غزة أيضًا ظهور ما يسمى بـ “تجار الحرب”، وهم أفراد استغلوا الوضع الاقتصادي الصعب لتحقيق أرباح طائلة من خلال تنسيق دخول الشاحنات المحملة بالمواد الاستهلاكية من إسرائيل مقابل عمولات باهظة. أكد الخبير الاقتصادي ماهر الطباع أن هؤلاء التجار حققوا ثروات طائلة من خلال احتكار دخول السلع وبيعها بأسعار جنونية.
مستقبل الاقتصاد الرقمي في غزة
نتيجة لتدمير البنوك وإغلاقها، اضطر سكان غزة إلى الاعتماد بشكل كامل على المعاملات الرقمية. أصبح الاقتصاد الرقمي هو السائد “إجبارياً” خلال الحرب، مما أدى إلى زيادة الشفافية في المعاملات المصرفية وتقليل فرص التمويل السياسي وغسل الأموال. يتوقع مسؤولون حكوميون أن يستمر هذا التحول نحو الاقتصاد الرقمي في المستقبل.
من المتوقع أن تستمر الجهود الرامية إلى إعادة إعمار البنية التحتية المصرفية في غزة، ولكن ذلك يتطلب توفير التمويل اللازم وضمان الأمن والاستقرار. يبقى الوضع الاقتصادي في غزة هشًا وغير مؤكد، ويتوقف على التطورات السياسية والأمنية في المنطقة. سيراقب المراقبون عن كثب جهود إعادة الإعمار وتأثيرها على حجم الودائع في البنوك والوضع الاقتصادي العام في القطاع.

