ينتمي المصريون بانتمائهم إلى واحدة من أقدم الحضارات في التاريخ الإنساني، تلك التي أرست أسس العلم والفن والسياسة منذ آلاف السنين، ولم يكن هذا الفخر مجرد انتماء ثقافي أو حضاري فقط، بل أثبته العلم الحديث من خلال دراسات جينية متخصصة، أكدت أن المصريين المعاصرين يحملون في جيناتهم إرث أجدادهم الفراعنة بنسبة كبيرة، وأن جينهم ظل محتفظا بنقائه رغم الغزوات والتقلبات التاريخية التي مرت بها البلاد.
المصريون… أبناء أولى الحضارات الإنسانية
ولم يقتصر الاهتمام بأصول الشعب المصري على العلماء المحليين، بل امتد إلى باحثين وعلماء أجانب تناولوا هذا الموضوع من زوايا متعددة.
ففي عام 1939، أكد العالم الأمريكي شارلتون ستيفانس كوون في كتابه “أعراق أوروبا” أن المصريين تمكنوا من الحفاظ على نقاء جينهم الأصلي رغم توالي الغزوات الأجنبية منذ العصر الفارسي وحتى الاحتلال البريطاني، إذ ظلوا متمسكين بهويتهم الوراثية، رافضين الاختلاط العرقي على نطاق واسع.
ما هو جنس القدماء المصريين؟
أما الباحث الأثري الأمريكي لاري أوركت، فقد نشر عام 2000 دراسة بعنوان “ما هو جنس القدماء المصريين؟”، أوضح فيها أن المصريين القدماء لم يكونوا من أصحاب البشرة السوداء، وأن أصولهم لا تمت بصلة مباشرة لشعوب القارة الإفريقية جنوب الصحراء، مما يدحض الادعاءات الغربية التي تربط بين المصريين القدماء وأعراق إفريقية مختلفة.
وفي السياق ذاته، أصدر العالم الأثري الأمريكي فرانك يوركو عام 1996 دراسة بعنوان An Egyptological Review، خلص فيها إلى أن الجينات الحديثة للمصريين تتطابق بنسبة لا تقل عن 97% مع جينات المصريين القدماء الذين عاشوا منذ أكثر من عشرة آلاف عام وحتى نهاية الأسرة الثلاثين، مما يشير إلى استمرارية وراثية مدهشة عبر العصور.
الدراسات الحديثة لتأكيد التطابق الجيني
وفي هذا الصدد، يقول الأستاذ الدكتور يحي زكريا جاد، أستاذ الوراثة الجزيئية، إن الجينيوم هو كتاب الحياة للكائن الحي وهو المسئول في الأساس عن تحديد صفات هذا الكائن، واختلافاته عن الكائنات الأخرى، بمعني أن الخلية الأولية “البويضة الملقحة” تحتوي على الجينيوم “الشفرة الوراثية”، الذي يحدد طريقة نمو هذه الخلية إلى أن تكون إنسانا.
وأضاف جاد- خلال تصريحات لـ “صدى البلد”، أن الاختلافات الجينية تشمل الاختلافات الجسيمية، في تسلسل حروف الجينيوم، والتي ينتج عنها تميز الكائنات الحية، والنوع الثاني هو يتضمن الاختلافات البسيطة، التي تميز الكائن والتي تراكمت عبر آلاف السنين، لتعطي التنوع الجيني الكبير بين السلالات المختلفة.
وأردف: “أما الإنسان الحديث فيعتبر ظهوره على وجه الأرض حدث من زمن قصير مقدر بـ “ثلاثمائة الف سنة”، مقارنة بأنواع الكائنات الحية، لذا فإن التنوع الجيني في الجينيوم البشري، أقل بكثير من تلك الموجودة، بين الكائنات أو سلالاتها المختلفة، لظهورها قبله بكثير على وجه الأرض”.
وأشار جاد، إلى أن تتضمن الاختلافات الجينيومية، بين أفراد الإنسان الحديث ومجموعته العرقية، يعتبر ضئيلا بالكائنات الأخرى، التي يوجد في كلا منها درجة من التجانس الجيني، بين أفرادها بجكم التزاوج على مر السنين.
وتابع: “المجموع الجيني هو مجموعالاختلافات الجنيومية، لمجموعة بشرية أو شعب ما أو ما يمكن تسميته رمزا للخريطة الجينية، أو الجينيوم المرجعي لشعب ما، حيث يتم دراسة جينيومات كل أفراد هذا الشعب وتديونها، في قاعدة بيانات اذا ما كان في الشعوب القليلة العدد، بينما في الشعوب الكبيرة، فإنه يتم اختيار عينة، عشوائية، مثلة لهذا الشعب، ودراسة جينيوماتهؤلاء الأفراد، واعتبار أن هذا المجموع الجيني يمثل الشعب فعليا”.
من جانبه، أشار الدكتور وسيم السيسي، الباحث المتخصص في علم المصريات، إلى دراسة رائدة أجرتها العالمة الأمريكية مارجريت كاندل بين عامي 1994 و1999 تحت عنوان “الصفات الغالبة لجينات المصريين”.
وشملت الدراسة عينات من مختلف أنحاء مصر، من المدن الكبرى إلى القرى والنجوع — وأثبتت أن التركيبة الجينية للمصريين متطابقة بنسبة 97% بين المسلمين والمسيحيين، وهي ذاتها الجينات التي حملها المصريون القدماء.
وأضاف السيسي أن فريقا من العلماء المصريين المتخصصين في البصمة الوراثية أعادوا إجراء الدراسة ذاتها لاحقًا، وتوصلوا إلى نتائج متقاربة، حيث تبين أن 88.6% من المصريين يحملون جينات الملك توت عنخ آمون، وأن 97.5% من المصريين، مسلمين ومسيحيين، يتشاركون نفس الصفات الجينية، مما يعزز فكرة وحدة الأصل واستمرارية الهوية المصرية عبر الزمن.
تحليل الحمض النووي من المومياوات القديمة
وفي تطور علمي آخر، تمكن فريق بحثي حديثا من استخراج أول تسلسل كامل لجينوم بشري من مصر القديمة، اعتمادا على أسنان رجل مسن عاش قبل نحو 4500 إلى 4800 عام، أي في فترة عصر الدولة القديمة، زمن بناة الأهرام.
وأظهرت التحاليل أن هذا الجينوم يحمل سمات قريبة من سكان شمال إفريقيا القدامى وسكان الشرق الأوسط، وفق ما نُشر في دورية Nature العلمية.
وقد وصف عالم الوراثة السكانية ديفيد رايك من جامعة هارفارد هذا الإنجاز بأنه “اكتشاف مثير ومهم للغاية”، إذ مثّل أول دليل ملموس على الحمض النووي للمصريين القدماء بعد محاولات عديدة لم تكلل بالنجاح.
فمنذ عام 1985 حاول العالم سفانتي بابو — الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 2022 — استخلاص الحمض النووي من مومياوات مصرية، لكنه اكتشف لاحقا أن النتائج كانت ملوثة بعينات حديثة.
ولم تظهر بيانات جينومية دقيقة إلا في دراسة عام 2017، التي قدمت أولى القراءات المحدودة لثلاث مومياوات مصرية تعود إلى فترات بين 3600 و2000 عام مضت.
والجدير بالذكر، أن تؤكد هذه الدراسات مجتمعة، سواء من العلماء الأجانب أو المصريين، أن الجين المصري ظل صامدا ونقيا عبر آلاف السنين، محتفظا بخصائصه الأصلية التي تعود إلى عصر الفراعنة.
ورغم ما مر على مصر من غزوات وثقافات، فإن هويتها الوراثية ظلت راسخة، شاهدة على عراقة هذا الشعب واستمراريته التاريخية الفريدة في سجل الإنسانية.










