في الوقت الذي يقدّم فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه على الساحة الدولية بصفته “صانع السلام الأول” وصاحب الإنجازات الدبلوماسية غير المسبوقة، تكشف الوقائع الميدانية والتقارير الصحفية ـ وعلى رأسها ما نشرته صحيفة الجارديان البريطانية ـ عن تناقض صارخ بين خطاب البيت الأبيض والحقيقة على الأرض. فبينما يزعم ترامب أنه أنهى خمس حروب منذ توليه السلطة وساهم في تسوية نزاعات تمتد من الشرق الأوسط إلى آسيا، تتوالى الشواهد التي تؤكد أن هذه الادعاءات ليست سوى مبالغات سياسية هدفها صناعة صورة زائفة لزعيم يبحث عن الانتصار الإعلامي أكثر من الحلول الواقعية.
ادعاءات ترامب.. إنهاء 5 حروب وصناعة اتفاقيات سلام
في خطاباته الأخيرة، خصوصًا أثناء حديثه عن الأزمة الأوكرانية في البيت الأبيض، تباهى ترامب بأنه لم يكتف بوقف إطلاق النار، بل سعى دائمًا إلى اتفاقيات سلام “دائمة”. بل ذهب أبعد من ذلك حين أعلن أنه أنهى خمس حروب، وحقق تسويات بين خصوم تاريخيين مثل إسرائيل وإيران، والهند وباكستان، وصربيا وكوسوفو، إضافة إلى نزاعات أفريقية وآسيوية أخرى.
لكن التدقيق في هذه الملفات يكشف أن ما يروّجه الرئيس الأمريكي لا يتجاوز حدود البيانات السياسية، إذ لم تتوقف المعارك في مناطق عدة، ولم تُترجم تلك الادعاءات إلى نتائج ملموسة.
الحقيقة في الميدان.. صراعات مستمرة ودماء لم تتوقف
أبرز تقرير الجارديان كيف أن معظم النزاعات التي ادعى ترامب حلها ما زالت قائمة أو تجددت بقوة:
الكونغو الديمقراطية ورواندا: لم تلتزم الفصائل المتمردة بموعد السلام، وتجددت المواجهات رغم تصريحات ترامب.
إيران: واشنطن لم تُحقق سلامًا بقدر ما نفذت ضربات عسكرية باستخدام قنابل خارقة للتحصينات، دفعت طهران إلى قبول هدنة مؤقتة تحت الضغط.
الهند وباكستان: نيودلهي نفت بشكل قاطع أن لترامب أي دور في وقف القتال حول كشمير.
صربيا وكوسوفو: لم يكن هناك أي استعداد للحرب أساسًا، ما يجعل ادعاء ترامب بمنعها أقرب إلى “خرافة سياسية”.
أزمات أوكرانيا.. إعادة كتابة التاريخ
المفارقة الأبرز ظهرت في الملف الأوكراني. فبعد لقاء ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، أعلن أنه لم يعد يسعى لوقف إطلاق النار هناك، بل يريد اتفاقًا نهائيًا للسلام.
لكن تصريحاته تتناقض مع تاريخه القريب؛ فقد كشفت قناة MSNBC الأمريكية تسجيلات له يطالب بوقف إطلاق النار في أوكرانيا قبل أسابيع فقط من اجتماعاته مع بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
هذا التبدل في الخطاب يعكس ـ وفق مراقبين ـ سعي ترامب إلى إعادة صياغة سجله السياسي بما يخدم صورته الحالية، في محاولة لإظهار نفسه كصانع سلام “شجاع” يرفض الحلول المؤقتة، بينما الحقيقة أنه كان أول من دعا إلى وقف إطلاق النار عندما اشتدت المعارك.
تناقضات فاضحة.. بين التصريحات والأفعال
سجل ترامب يفيض بالتصريحات المتناقضة:
في مايو، أعلن بنفسه التوصل إلى وقف إطلاق نار “كامل وفوري” بين الهند وباكستان بعد وساطة أمريكية.
في يوليو، تفاخر باتصالاته مع قادة كمبوديا وتايلاند للضغط من أجل وقف إطلاق النار بعد اشتباكات حدودية.
حتى في الشرق الأوسط، كتب ترامب بنفسه عن اتفاق شامل بين إسرائيل وإيران على وقف القتال.
ورغم هذه التصريحات، عاد ليقول لزيلينسكي: “لم أعقد أي اتفاقات لوقف إطلاق النار، بل كلها اتفاقيات سلام”. وهو تناقض يضعف بشدة صدقية روايته أمام الرأي العام العالمي.
بوتين وورقة الأراضي: عقدة السلام في أوكرانيا
المحادثات الأخيرة بين ترامب وبوتين أظهرت بوضوح الفجوة بين رغبة موسكو ورؤية كييف. فبينما طالب بوتين باعتراف أوكرانيا بسيطرة روسيا على أراضٍ في الجنوب الشرقي قبل أي مفاوضات، تمسكت كييف بوقف إطلاق النار أولًا، معتبرة أن لا مجال للتفاوض في ظل استمرار القصف.
لكن ترامب، الذي يسعى إلى “انتصار دبلوماسي سريع”، بدا مستعدًا لتجاهل هذه التعقيدات، حتى لو كان ذلك على حساب موقف أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين.
ترامب وصورة “البطل” السياسي
من الواضح أن الرئيس الأمريكي يحاول تقديم نفسه للعالم كمهندس سلام يتخطى الحلول الجزئية. إلا أن الواقع يكشف أن استراتيجيته لا تعدو كونها حملة علاقات عامة مكثفة، تهدف إلى تعزيز موقعه السياسي داخليًا وتكريس صورة زائفة عن دوره العالمي.
بين الخطاب والحقيقة
لا شك أن العالم بحاجة إلى وسطاء أقوياء قادرين على وقف نزيف الدم في أوكرانيا والشرق الأوسط وآسيا. لكن ما بين ادعاءات ترامب وسجله الحقيقي تتضح الهوة الكبيرة بين “كلمات السلام” و”أفعال الحرب”.
ترامب يسعى اليوم إلى إعادة كتابة تاريخه السياسي على حساب الوقائع، مستخدمًا لغة النصر والتسوية بينما تشتعل المعارك في أكثر من ساحة. وهنا يبرز السؤال الأهم: هل يمكن لزعيم يعتمد على التهويل وتضخيم الإنجازات أن يقود فعلًا مسار سلام عادل ومستدام؟ أم أن التاريخ سيذكره كسياسي بارع في صناعة الأوهام أكثر من صناعة السلام؟