يعد مسار العائلة المقدسة من أعظم المسارات الدينية والتاريخية في العالم، فهو يحمل بين طياته أعمق معاني القداسة والإيمان، ويعكس الدور الفريد الذي تميزت به أرض مصر حين احتضنت السيد المسيح والعذراء مريم والقديس يوسف النجار.
فالحديث عن هذا المسار هو حديث عن تاريخ مقدس ترك بصمته في وجدان البشرية ومسيرة إلهية جعلت من أرض مصر موطنا للبركة والسلام، ولهذا جاء مشروع “إحياء مسار العائلة المقدسة” ليعيد إحياء هذه الذاكرة المقدسة في الوعي المصري والعالمي.
إحياء مسار العائلة المقدسة
وفي هذا الصدد، قال بيشوي دميان، الباحث بكلية الآثار جامعة القاهرة، إن مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة في مصر يعد من أضخم وأقدس المشروعات القومية التي تلتقي فيها أبعاد الإيمان بالهوية، والتاريخ بالواقع، والتراث بالتنمية.
وأوضح أن الأمر لا يقتصر على ترميم طريق أو تهيئة أماكن، بل هو في جوهره بعث لرحلة خالدة جرت على أرض مصر منذ أكثر من ألفي عام، حين لجأت العائلة المقدسة “السيد المسيح الطفل والعذراء مريم والقديس يوسف النجار” إلى أرض مصر هربا من بطش الملك هيرودس.
وأضاف أن تلك الرحلة المقدسة امتدت لما يقرب من ثلاث سنوات ونصف، وقطعت فيها العائلة مسافة تقدر بأكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، بدأت من رفح شمالا مرورا بالدلتا ووادي النطرون، وصولا إلى أقاصي الصعيد في جبل قسقام بأسيوط، حيث استقروا في المغارة التي صارت لاحقا دير المحرق، المعروف بين المؤمنين باسم “البيت الثاني للسيد المسيح على الأرض”.
أرض الملجأ المقدس
وأشار إلى أن مصر كما تذكر النصوص القبطية والكتابات التاريخية، كانت أرض الملجأ المقدس التي اختارها السيد المسيح لتكون حضنا آمنا له في طفولته، ومسرحا لأحداث تركت بصمتها على الوجدان الإنساني إلى الأبد.
وتابع: “لذلك فإن كل خطوة من خطوات تلك الرحلة تحولت إلى شاهد أبدي على حضور سماوي فوق تراب بشري، وإلى نقطة التقاء بين السماء والأرض، موضحا من هنا جاءت فكرة الإحياء، لا باعتبارها مشروعا أثريا فحسب، بل باعتبارها مسئولية روحية وتاريخية تُعيد إلى الذاكرة ذلك الحدث الفريد الذي ميز مصر دون سواها من بلدان العالم”.
وبين “دميان” أن الهدف من مشروع الإحياء يتجاوز حدود البقاع الجغرافية إلى إحياء الوجدان الجمعي للمصريين بكل ما يحمله من محبة للقداسة واحترام للتاريخ وإيمان عميق بالبركة التي حلت على أرضهم بمرور السيد المسيح والعذراء مريم والقديس يوسف النجار، فالعمل على هذا المسار هو في جوهره استعاة لذاكرة وطنية جامعة تُذكر الأجيال بأن أرض مصر كانت وستظل موطنا للمقدسين ومسرحا للأحداث التي غيرت مجرى التاريخ.

المسار وحكايات الإيمان
وذكر أن المسار من الناحية الروحية والدينية يمثل دربا للحج والتأمل، ودعوة مفتوحة لكل مؤمن أن يسير بخطواته على أثر خطوات السيد المسيح والعذراء مريم، فيتحول المسار إلى رحلة داخلية للإنسان يسير فيها من الخارج إلى الداخل، ومن التاريخ إلى القلب، كما أن كل موقع من مواقع المسار يحمل نفس البركة وعبق القداسة، من شجرة مريم في المطرية، إلى كنيسة أبو سرجة في مصر القديمة، إلى مغارة دير المحرق، وجميعها مواقع تنبض بالحياة وتروي حكايات الأمان بعد الخوف، والنور بعد الظلمة.
وأكد أن المسار من الجانب “الثقافي والتراثي” هو وثيقة حية تنطق بلسان التاريخ والذاكرة الشعبية، إذ لم تترك الرحلة أثرا ماديا فحسب، بل أورثت الشعب المصري مرويات وأساطير وتسابيح وأناشيد وأعيادا لا تزال تُمارس حتى اليوم، مثل “عيد دخول السيد المسيح أرض مصر” الذي يحتفل به الأقباط في اليوم الأول من شهر يونيو من كل عام، وقد اندمج هذا التراث الديني في نسيج الثقافة المصرية حتى صار جزءا من الوعي الجمعي، تتناقله الأجيال كرمز للبركة والحماية والطمأنينة، ومن هنا تأتي أهمية توثيق هذا التراث غير المادي وصونه باعتباره أحد الكنوز الإنسانية التي تجسد التعايش الفريد بين الدين والحضارة في مصر.
مقصد عالمي للحج المسيحي
وتابع الباحث موضحا أن للمشروع أيضا بُعدا “سياحيا واقتصاديا” مهما إذ يُحول المسار إلى مقصد عالمي للحج المسيحي والسياحة الدينية، يستقبل الحجاج والزائرين من مختلف أنحاء العالم، ويمنحهم فرصة العبور في رحلة إيمانية وسط الطبيعة والتاريخ.
وواصل: “كما أن هذا الإحياء لا يقتصر على الترويج السياحي فحسب بل يُعد وسيلة فعالة لتحريك الاقتصاد المحلي في القرى والمدن التي يمر بها المسار، من خلال تطوير المواقع الأثرية، وتحسين الطرق والخدمات، وخلق فرص عمل جديدة، وتنشيط الصناعات اليدوية والحرف التراثية ودعم المنتجات المحلية مثل الأيقونات والخوص والمشغولات القبطية التي تعبر عن هوية المكان وروحه، ليصبح المشروع نموذجا للتنمية المستدامة التي تجمع بين الإيمان والاقتصاد، وبين القداسة والحياة اليومية”.
وأضاف دميان أن إحياء المسار من الناحية “الحضارية والإنسانية” هو في جوهره رسالة سلام للعالم أجمع، تُظهر مصر في صورتها الحقيقية كأرض احتضنت السيد المسيح الطفل، وقدمت للعالم درسا خالدا في الإنسانية والتسامح، ففي ربوعها عاش السيد المسيح طفولته الأولى، وفي أحضانها وجد الأمان من الاضطهاد، ومن أرضها عاد إلى وطنه ليبدأ خدمته، وتلك الصورة الإنسانية لمصر كأرض للملجأ تكتسب اليوم بُعدا عالميا في زمنٍ تتعالى فيه الدعوات إلى الحوار بين الأديان والثقافات.
مشروع روحي وسياحي وثقافي وتنموي
واستطرد الباحث موضحا أن مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة يجمع بين أبعاد متعددة لا يمكن فصلها، فهو مشروع روحي وسياحي وثقافي وتنموي في آنٍ واحد، يمثل إعادة بناء للذاكرة وترميما للروح وتأكيدا لهوية مصر التي لم تنفصل يوما عن رسالتها في احتضان الحياة ونشر النور.
وأوضح أنه من خلال هذا المشروع، تعود مصر لتقدم للعالم هدية جديدة: رحلة روحية ممتدة من رفح إلى أسيوط، تمتزج فيها بركة السيد المسيح بعراقة التاريخ، وتتلاقى فيها خطوات السماء مع أرض الكنانة التي ما زالت رغم تقلبات الزمن تحمل في طياتها صوت العذراء وصلوات القديسين.
واختتم دميان حديثه مؤكدا أن إحياء هذا المسار يُعد فتح صفحة جديدة من التاريخ المصري المقدس، تُكتب فيها شهادة حب ووفاء لأرض لم تخذل يوما من لجأ إليها، وأيقونة سلام تُهدى إلى العالم المعاصر الذي يبحث عن معنى الإيمان وسط صخب المادة وضياع الروح، فكل حجر في هذا المسار ينطق بأن “مصر كانت ولا تزال أرض السيد المسيح المباركة”، وكل زائر يسير على خطى العائلة المقدسة يشعر أنه لا يزور موقعا أثريا، بل يدخل إلى قلب قصة مقدسة حية تسكنها بركة السيد المسيح وعذوبة الإيمان ودفء التاريخ.
ويؤكد هذا المشروع المبارك أن مسار العائلة المقدسة ليس مجرد رحلة في الزمان والمكان، بل هو شهادة حب إلهي لأرض مصر، التي كانت وستظل ملاذا للقداسة والسلام، فكل موقع من مواقع المسار يحكي قصة بركة، وكل خطوة فيه تذكر العالم بأن مصر هي الأرض التي باركها السيد المسيح، لتبقى رمزا خالدا للإيمان والإنسانية والنور.
