في مشهد سياسي وعسكري بالغ التعقيد، أعلنت مصادر مصرية أن حركة حماس وافقت على المقترح الذي صاغه الوسطاء من مصر وقطر، لوقف إطلاق النار في قطاع غزة. هذه الخطوة التي تأتي بعد شهور من القصف والتجويع والحصار، فتحت بابًا واسعًا للتساؤلات.. هل هي بداية مسار جديد نحو التهدئة الدائمة، أم مجرد هدنة تكتيكية في حرب تستنزف الجميع؟
المقترح يحمل في طياته تفاصيل حساسة تتعلق بإعادة انتشار القوات الإسرائيلية، وإدخال المساعدات الإنسانية، وصفقات تبادل الأسرى. وفي المقابل، جاء الموقف الإسرائيلي متذبذبًا بين الترحيب الحذر والرفض القاطع من أجنحة اليمين المتطرف، بينما يتابع المجتمع الدولي بترقب بالغ.
تفاصيل المقترح.. وقف مؤقت يعيد الأمل
المصادر المصرية أوضحت أن المقترح يتضمن وقفًا مؤقتًا للعمليات العسكرية لمدة 60 يومًا، يتم خلالها تبادل الأسرى وفق معادلة معقدة: إطلاق سراح عدد من الفلسطينيين مقابل نصف عدد المحتجزين الإسرائيليين، إضافة إلى تسليم جثامين 18 فلسطينيًا من أصل 36 محتجزًا لدى إسرائيل.
كما يشمل المقترح إعادة تموضع القوات الإسرائيلية بعيدًا عن قلب قطاع غزة، باتجاه مناطق محاذية للحدود، بما يتيح تدفق المساعدات الإنسانية بشكل أوسع ويلبي الاحتياجات المتفاقمة لسكان القطاع. ومنذ اليوم الأول للهدنة، يبدأ النقاش حول “الصفقة الشاملة”، بما يشمل وقفًا دائمًا للحرب.
ردود فعل حماس.. بين الواقعية والحذر
بحسب المصادر، اعتبرت حركة حماس المقترح أفضل الخيارات المتاحة في ظل الأوضاع الإنسانية الكارثية، ورأت فيه “بداية الطريق نحو الحل الشامل”. وأكد مسؤول في الحركة لوكالة “رويترز” أن الرد الرسمي أُبلغ للوسطاء، وأن الحركة تتعامل مع المقترح باعتباره فرصة لحماية السكان من تصعيد جديد.
إلا أن مراقبين يحذرون من أن هذه الموافقة قد تكون خطوة تكتيكية تهدف إلى كسب الوقت، خصوصًا مع الضغوط العسكرية الإسرائيلية، واستنزاف القدرات الاقتصادية والاجتماعية في القطاع.
الموقف الإسرائيلي.. انقسام حاد
في الجانب الآخر، تسلمت إسرائيل رد حماس على المقترح، وسط انقسام واضح داخل مؤسسات الحكم. فبينما وصف مصدر دبلوماسي الرد بأنه يتوافق بنسبة 98% مع مقترح ويتكوف الذي سبق أن وافقت عليه تل أبيب، بدا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أكثر حذرًا، مكتفيًا بالقول إن حماس “تحت ضغط هائل” وأنه يتابع التطورات بدقة.
أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس، فقد رأى أن استعداد حماس للنقاشات يعكس إدراكها لجدية نوايا إسرائيل. لكن في المقابل، شن وزير الأمن المتطرف إيتمار بن غفير هجومًا لاذعًا، واعتبر أن “استسلام نتنياهو وإيقاف الحرب سيكون بكاءً لأجيال”، مضيفًا أن “الفرصة الحالية تتطلب القضاء الكامل على حماس”.
هذا الانقسام يعكس أزمة داخلية في إسرائيل بين تيار يريد استثمار الضغط العسكري لتحقيق مكاسب سياسية، وآخر يسعى إلى تهدئة تحفظ ماء الوجه أمام المجتمع الدولي.
دلالات القبول.. قراءة في حسابات “حماس”
يرى اللواء محمد حمد، الخبير الاستراتيجي، أن موافقة “حماس” ليست مجرد تنازل، بل انعكاس لإدراك الحركة لحجم الكلفة الباهظة التي تكبدها القطاع إنسانيًا واقتصاديًا، إلى جانب الضغوط الإقليمية والدولية المتصاعدة.
وأضاف أن مصر، بحكم موقعها الجغرافي ودورها التاريخي، لم تقف مكتوفة الأيدي، بل كثّفت جهودها الدبلوماسية مع قطر والقوى الدولية لبلورة مقترح متوازن يراعي الحد الأدنى من مصالح جميع الأطراف، ويمنع انزلاق المنطقة نحو فوضى أوسع.
الداخل الفلسطيني.. فرصة لإعادة ترتيب البيت
يؤكد حمد أن هذه الموافقة قد تكون نافذة لإعادة ترتيب الصف الفلسطيني الداخلي، وربما تفتح الباب لمفاوضات أوسع تشمل ملف الأسرى وصفقات التبادل، إلى جانب ملف إعادة الإعمار الذي يشكل أولوية قصوى لسكان غزة.
لكن الخبير يحذر من أن يكون قبول “حماس” مجرد مناورة تكتيكية تهدف إلى كسب الوقت، وإعادة تنظيم القدرات العسكرية استعدادًا لجولات قادمة من المواجهة.
الموقف الإسرائيلي والدولي.. بين التحفظ والدفع نحو التهدئة
نجاح أي اتفاق لوقف إطلاق النار، بحسب حمد، سيظل مرهونًا بموقف إسرائيل. فإذا رأت تل أبيب أن المقترح لا يلبي احتياجاتها الأمنية، فقد تعرقل التنفيذ أو تضيف شروطًا جديدة.
في المقابل، باتت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر ميلاً لدعم تهدئة طويلة المدى، تحت ضغط الرأي العام العالمي والاعتبارات الإنسانية المتفاقمة.
السيناريوهات المستقبلية.. بين هدنة مستدامة وجولة أعنف
يشير الخبير إلى أن تثبيت وقف إطلاق النار قد يقود إلى ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة في غزة، برعاية مصرية قطرية وربما بإشراف أممي. لكن في حال تعثر التنفيذ أو تعمدت الأطراف خرق الاتفاق، فإن المنطقة قد تنزلق إلى جولة أشد ضراوة من الصراع، ما يهدد بتوسيع رقعة الحرب إلى جبهات أخرى.
في النهاية، يبدو أن غزة تقف مجددًا عند مفترق طرق تاريخي. فالموافقة المبدئية لحماس على المقترح المصري القطري تمنح بصيص أمل لوقف نزيف الدم وإنقاذ ما تبقى من حياة تحت الأنقاض. لكن التجارب السابقة علمت الفلسطينيين أن كل هدنة قد تكون مجرد استراحة محارب، وأن إسرائيل كثيرًا ما تستخدم الوقت لترتيب أوراقها وفرض وقائع جديدة على الأرض.