لم يكن هذا الظلام الدامس الذي حل على تلك القاعة الفاخرة، أميناً ساتراً، نزيهاً منصفاً، وكيف له ذلك وقد كشف عن دمعة ندت من عينيها وارتعاشه يديها، وموسيقى عصبية اندلعت في ضربات قلبها التي أصبحت كدوي الطبول التي تعلن الحرب أو .. الحب.
“تخونوه وعمره ما خانكم”•• هي الجملة التعجبية التي فتحت شغاف قلب الوردة الحريرية، عندما انطلقت بانسيابية في قاعة السينما المظلمة والقابعة بإحدى المدن الفرنسية، ولم يكن الفضل للكلمات التي كتبها إسماعيل الحبروك، ولا لإنهيار صلاح بطل الفيلم الذي عامله والد سميحة كالصعلوك، ولكن بسبب ألحان تلك الأغنية التي ذابت الوردة بين نغماتها، كما يذوب البهاء في مواكب الملوك.
ومن هنا كانت البداية لأجمل وأتعس حكاية، حنين العزف على أنين النزف، حب بلا أمل، ثم زواج صاحبه كلل، فطلاق أودى بكليهما للعديد من العِلل، فصل خالد في رواية الحب المأثورة، اكتملت به مآسي حكاياتها الموسومة بالفرح القليل ،والحزن الكبير والفقد العظيم والحرمان الغفير، ثم تتطور فصولها لفِراق بلا افتراق، وحريق دون احتراق.
رواية فصولها قيس وليلي، عنتر وعبلة، شمشون ودليلة، نيتشه وسالومي، بليغ حمدي ووردة الجزائرية، قصة كتبتها الألحان وخلدتها الأغنيات لذا لن تصبح يوماً نسياً منسياً، فهي نهج لكل إنسياً، زاره طيف حب ظن أنه منه آمناً مزوياً ولم يفق إلا على إنفجار مشاعره بصخب مدوياً.
في عام 1957، كانت وردة ذات الثمانية عشر عاماً تشاهد فيلم “الوسادة الخالية” في إحدى دور العرض بباريس، وما أن استمعت للحن تخونوه، حتى وقع في قلبها دبيب حّرك الجَليد، النابع من الاغتراب وتحديات النجاح والشهرة في قلب الشباب، لذا خرجت من السينما عاقدة النية للمجئ لمصر ولقاء هذا الملحن العبقري الذي عزف على أوتار قلبها دون أن تراه.
وفي العالم الموازي يتلقى هذا الملحن الموهوب دعوة لمنزل الفنانة صباح، حيث دعاه زوجها عازف الكمان أنور المنسي للاستماع لبعض الأسطوانات، ومن بينها وردة وهي تغني إحدى أغنيات كوكب الشرق، وما أن استمع إليها بليغ حتى سكنه طيفها قبل أن يراها، وتمنى لو يراها ليجعل منها نجمة في عالم الغناء وهذا ما قاله علناً، ولتكون مليكة قلبه وهذا ما ردده قلبه سراً.
كانت لحظة أخلص فيها بليغ الدعاء، فما كان من أبواب السماء إلا أن فتحت على مصراعيها، لتستقبل دعواته وترتب لقائه بوردة حياته، ففي مطلع الستينيات كان اللقاء الاول في منزل المبدع الفنان محمد فوزي الذي رشح بليغ قبل ذلك للتلحين لأم كلثوم عندما أرادت تغيير القالب السنباطي الغالب على أغنياتها، ليمنحه نقطة تحول في مسيرته الفنية عندما لحن لها “حب إيه”.
ويبدو أن فوزي أهداه أيضاً حب عمره دون أن يدري، أو ربما بحس الإنسان كان يدري، فمنحه لقاء رفيقة دقاته القلبية حتى بعد المؤامرات الحياتية، وفي هذا اللقاء تم الاتفاق على أن يقوم بليغ بتلحين أغنية يا “نخلتين في العلالي” التي سيتضمنها فيلم “ألمظ وعبده الحامولي”، والذي كان سبب زيارة وردة لمصر بدعوة من المنتج والمخرج حلمي رفلة لتقوم ببطولة الفيلم بعد أن رآها في فقرتها الثابتة التي كانت تؤديها في النادي الذي يمتلكه والدها بباريس، وكانت تقوم بتقديم أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.
ولأن الحب كالعِطر لا يختبئ، ففي بروفات العمل والتي كان يحضرها وجدي الحكيم، تسرب العِطر لشقيق وردة الذي كان يرافقها في تلك الزيارة، وكيف لا وبليغ كان قد أعترف لوجدي بأنها ” هزته” كما لم تفعل أي إمرأة أخرى.
أبلغ شقيق وردة ما نما إلى حدسه لوالدها فما كان منه إلا أن رفض استقبال بليغ حمدي ووجدي الحكيم ومجدي العمروسي عندما ذهبوا ليطلبها بليغ للزواج، لرفض والدها القاطع أن تتزوج ابنته من الوسط الفني واصراره أن تقترن برجل جزائري الجنسية، لذا بعد أن انتهى الفيلم سافر الوالد بصحبة ابنته فوراً للجزائر، وكانت الزيارة الأولى لوردة لبلدها، وزوجَها من ضابط جزائري قريب لها وانجبت ولدين وابتعدت عن الفن، ولكنها طُلقت بعد ذلك بسنوات قليلة.
ولأن للقدر كلمة، وللنصيب زمان وحكمة، كان العام 1972 أي بعد مرور قرابة العشر سنوات على حادثة كسر القلوب، وأثناء الاحتفال بالذكرى العاشرة لثورة الجزائر بمشاركة وفد من الفنانين المصريين وعلى رأسهم بليغ، والجزائرين وفي مقدمتهم وردة المحتجبة في ذلك الوقت، ولكن طلبها الرئيس الجزائري هواري بومدين بشكل رسمي لتشارك في الاحتفال، وهناك التقى الحبيبان مرة أخرى ونتج عن هذا اللقاء التحفة الفنية “العيون السود” وقرار الزواج الذي استحال لقرن من الزمان.
يمكن أن تستمع لقلب بليغ النابض في رائعته “العيون السود” التي كتبها صديقه محمد حمزة بمداد ألم قلب بليغ وأفكاره التي أمد بها صديقه، وقام بتلحينها وغنتها وردة، لنظل جميعنا لليوم نتسائل “وعملت إيه فينا السنين”!
لم تبارح وردة قلب بليغ لحظة طوال تلك السنوات، حتى إن أم كلثوم لاحظت أن بليغ يتعمد إستخدام قوالب معينة أو كلمات محددة يضيفها أو يغيرها لأغانيها فمازحته ذات مرة قائلة ” أنت يا واد بتبعت رسائل للبنت اللي بتحبها عن طريقي، أنت عاملني كوبري يا ولد”، وتلك كانت حقيقة كشفتها أغنية العيون السود الرقيقة “كل غنوه عالفرح كانت عالجرح كانت، على الصبر كانت، عالحب كانت، كتبتها وقلتها كانت عشانك”.
في نفس العام الذي لحن فيه بليغ “حكم علينا الهوى” آخر ما غنت ثومة 1973، أتم زواجه على وردة في منزل الفنانة نجوى فؤاد، وسط لوم اللائمين العالمين ببواطن الأمور عن نوبات الجنون التي تنتاب هؤلاء المعجونين بالفنون، لذا فلولا الملامة لم تكن إلا إشارة وعلامة عن تلك الحالة.
ست سنوات هي عمر تلك الزيجة، التي انتهت لأن هذا قدرها، دون أن نتيقن هل هي الغيرة النسائية من النجمة الصاعدة سميرة سعيد المغربية، أم هي العاطفة الأبوية التي كانت تلح على بليغ لينجب طفلاً من وردته الاستثنائية، الأمر الذي رفضته وردة بحزم حتى لا تتعطل مسيرتها الفنية!
وفي اليوم الثاني للطلاق التقت وردة بصحفي سألها عن علاقتها ببليغ فما جاء الرد إلا من كبرياء الأنثى التي تواري ضعفها بانفلات لسانها، فردت على الصحفي “هو مين بليغ”!
تلقى بليغ الواقعة بألم، فجاء رده ممزوج بالنغم وكانت بمثابة ميلاد تحفة فنية أخرى وهي “أنا الحب اللي كان، اللي نسيته أوام من قبل الأوان، نسيت إسمي كمان، نسيت يا سلام على غدر الإنسان”، ولم يكن هناك أفضل من ميادة الحناوي لتشدو بصوتها الدافئ تلك الكلمات وخاصة أن قلب ميادة يحمل غِصة من وردة على وقعة سابقة.
فقبل تلك الواقعة بعام كانت ميادة تستعد لإطلاق أغنيتها الجديدة “في يوم وليلة” والتي قام بتلحينها محمد عبد الوهاب، حيث خضعت لبروفات وتحضيرات ناهزت 18 شهر، لتخرج الأغنية بالشكل اللائق، ولكنها اضطرت للسفر لسوريا فجأة مما أثار حفيظة عبد الوهاب وحنقه، لعدم التزامها وقرر أن تقوم وردة بغنائها، حتى أنه قبِل اقتراحاتها وتعديلاتها في بعض مقاطع الأغنية، لتقدم لنا وردة واحدة من أروع الأغنيات على الإطلاق، وساهم في نجاح تلك الأغنية أنها تقاطعت مع ملامح قصة الحب الأشهر بينها وبين بليغ الذي بدأ قبل أن يلتقيا، وذلك ما جسده المقطع القائل “عمري ما شفته ولا قابلته، وياما شاغلني طيفه، وفي يوم لقيته، لقيته هو، هو اللي كنت بتمنى أشوفه، نسيت الدنيا وجريت عليه، سبقني هو وفتح إيديه”.
ارتبط تاريخ وردة فنياً وقلبياً ببليغ حتى بعد طلاقهما، حيث تعاون بليغ ووردة خلال زواجهما وقدما ما يزيد عن 150 أغنية هي أروع ما غنت وردة ولحن بليغ، وبعد سنوات من الطلاق الفني وفي عام 1991 وقبل وفاة بليغ بعامين، قدم لها أغنية بودعك، ليمنحها وداعاً يليق بقدرها، ومدى حبه لها.
في 17 من شهر مايو تحل ذكرى رحيل وردة التي تركت عالمنا في عام 2012 إثر أزمة قلبية، ولكن كعادة العظماء رحيل مطعم بالحضور، غياب وكأنه الإياب، فِراق طازج الشعور، قصة حب خالدة وحياة كانت إلى حد بعيد غير هادئة، ولكنها بالطبع لم تكن عادية كانت استثنائية اللقاء والبقاء رغم تغير لعبة الأيام..
ويشاء القدر أن تكون “لعبة الأيام” هي أغنية من أجمل أغنياتها التي غنتها عام 1963 ولحنها السنباطي، بعد لقائها ببليغ وكأنها تشدو بالنهاية قبل البداية، نهاية اختار كلاهما ألا تعقبها أي بداية فلم يتزوج أي منهما بعد انفصالهما، فما في القلب سيظل محله القلب والكلمات رغماً عن أنف الحياة، وعنداً فيما تشاءه النهايات.