شهد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دوراته الأخيرة حضوراً لافتاً للأفلام السعودية، ليؤكد تحولاً مهماً في المشهد السينمائي في المملكة. ففي عام 2020، افتتح فيلم “حد الطار” للمخرج عبد العزيز الشلاحي مسابقة آفاق السينما العربية، وحصل على جائزة خاصة، ثم تبعه فيلم “بلوغ” في الدورة التالية، وهو عمل جمع خمس مخرجات سعوديات شابات. هذا العام، يواصل الفيلم السعودي تألقه من خلال الفيلم الوثائقي “ضد السينما” للمخرج علي سعيد، الذي حصد جائزة لجنة التحكيم الخاصة وأثار نقاشاً واسعاً حول تاريخ السينما في السعودية.
يعتبر “ضد السينما” عملاً توثيقياً هاماً يسلط الضوء على المعركة الخفية التي خاضتها السينما السعودية على مر العقود، قبل وبعد السماح بإقامة دور العرض السينمائية عام 2017. الفيلم لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يغوص في تفاصيلها عبر مقابلات وشهادات حية من رواد السينما السعودية، ليكشف عن حجم التحديات والقيود التي واجهتهم.
تاريخ من المقاومة: “ضد السينما” كوثيقة تاريخية
يبدأ الفيلم بمحاولة لتتبع جذور العلاقة المعقدة بين السعودية والسينما، وصولاً إلى طرد المصور الفرنسي جون بروش من جدة عام 1918. ثم يتطرق إلى فترة الثمانينات، وكيف تعرف جيل كامل على السينما عبر شرائط الفيديو بعد أحداث جهيمان، ويعتبر الفيلم بمثابة سجل حي لتلك الفترة. ويعرض الفيلم كيف تحولت السينما خلال تلك السنوات إلى فعل مقاومة، وكيف استمر صناع الأفلام في إنتاج أعمالهم رغم كل الصعاب.
يعتمد المخرج علي سعيد على أسلوب سردي يمزج بين الزمان والمكان، حيث ينتقل بسلاسة بين الماضي والحاضر، وبين القصص الشخصية والأحداث التاريخية. كما يستخدم أرشيفاً غنياً من الصور والفيديوهات النادرة، لإضفاء المزيد من الواقعية على الفيلم. ويرى النقاد أن هذا الأسلوب يعكس فكرة أن الصراع حول السينما في السعودية لم يكن مجرد حدث عابر، بل هو جزء من تاريخ أعمق وأكثر تعقيداً.
أصداء الماضي وتحديات الحاضر
الفيلم لا يتردد في طرح أسئلة صعبة حول طبيعة هذا الصراع، وما إذا كان قد انتهى حقاً بعد السماح بإقامة دور العرض السينمائية. ويتوقف الفيلم عند محاولات تأسيس مهرجانات سينمائية في السعودية خلال العقد الماضي، وكيف واجهت هذه المحاولات عراقيل متعددة. يركز الفيلم على تجارب مخرجين مثل عبد الله المحيسن وهيفاء المنصور، ويستعرض أفلامهم كأمثلة على الإصرار والإبداع في وجه القيود.
بالإضافة إلى ذلك، يتطرق الفيلم إلى دور بعض الشخصيات المؤثرة في دعم السينما السعودية، مثل المنتج صالح الفوزان، الذي اضطر إلى مغادرة البلاد في الثمانينات بسبب مواقفه الداعمة للفن. كما يسلط الضوء على دور المواقع الإلكترونية والمنصات الرقمية في إتاحة الفرصة لصناع الأفلام لعرض أعمالهم ومخاطبة الجمهور.
“ضد السينما”: جدل حول التاريخ وتأكيد الهوية
أثار الفيلم جدلاً واسعاً في الأوساط السينمائية والثقافية السعودية، خاصة بعد عرضه في مهرجان القاهرة. ويرجع هذا الجدل إلى عدة عوامل، منها المعلومات والتفاصيل الجديدة التي كشفها الفيلم عن تاريخ السينما في السعودية. كما أن الفيلم يطرح سؤالاً أساسياً حول الهوية الثقافية السعودية، وما إذا كانت السينما جزءاً من هذه الهوية أم تتعارض معها. والفيلم يقدم مجموعات مختلفة من الشهادات المتضاربة ويترك الحكم للمشاهد.
كما أن الفيلم يمثل تحدياً لبعض الروايات التاريخية السائدة حول السينما في السعودية، والتي يرى الفيلم أنها تتجاهل دور العديد من الشخصيات الهامة في تطويرها. وقد أشار بعض النقاد إلى أن الفيلم يمكن اعتباره محاولة لإعادة كتابة تاريخ السينما في السعودية، من منظور أكثر شمولية وعدالة.
يعتبر “ضد السينما” إضافة قيّمة إلى المكتبة السينمائية العربية، وهو بمثابة شهادة حية على الإرادة والإصرار في مواجهة التحديات. يبرز الفيلم دور السينما كأداة للتعبير عن الذات والهوية، وكوسيلة للتواصل مع الآخرين وتبادل الأفكار.
من المتوقع أن يساهم هذا الفيلم في فتح حوار أوسع حول مستقبل السينما في السعودية، وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان ازدهارها واستدامتها. وستترقب الأوساط السينمائية السعودية ردود الفعل الرسمية على الفيلم، وما إذا كانت ستؤدي إلى تغييرات في السياسات والإجراءات المتعلقة بدعم السينما وتشجيعها. ومن أهم ما يجب مراقبته، هي بداية الدعم المالي واللوجستي الذي تقدمه الدولة لصناع الأفلام المستقلين، ودور هذا الدعم في تطوير صناعة السينما السعودية.










