بعد انقطاع دام ما يقرب من ثلاثة عقود، أعلنت فرنسا عن إعادة إحياء الخدمة العسكرية الطوعية، في خطوة تتزامن مع تحولات جيوسياسية متسارعة في أوروبا. يأتي هذا القرار في ظل مخاوف متزايدة بشأن التهديد الروسي المحتمل، وتساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة بأمن القارة. وتهدف هذه الخطوة إلى تعزيز الاستعداد العسكري الفرنسي في مواجهة تحديات مستقبلية.
أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن برنامج الخدمة العسكرية الطوعية الجديد، والذي يستهدف الشباب بين 18 و19 عاماً، سيبدأ الصيف المقبل وسيستمر لمدة عشرة أشهر. وأوضح ماكرون أن الخدمة لن تكون إلزامية إلا في حالات الأزمات الكبرى، لكنه شدد على استعداد فرنسا لاستدعاء الشباب ذوي المهارات اللازمة في حالة نشوب حرب. هذا الإعلان يمثل تحولاً ملحوظاً في السياسة الدفاعية الفرنسية.
العودة إلى الخدمة العسكرية: استجابة للتهديدات المتزايدة
يثير تصريح الجنرال فابيان ماندون، القائد الأعلى للجيش الفرنسي، حول وجوب الاستعداد لـ”فقدان الأبناء”، قلقاً واسعاً، إذ أشار إلى أن روسيا تستعد لمواجهة دول أوروبية بحلول عام 2030. على الرغم من أن الخطة الفرنسية لا تتضمن إعادة التجنيد الإلزامي الذي تم إلغاؤه في عام 1997، إلا أنها تعكس قلقاً عميقاً بشأن الوضع الأمني المتدهور في القارة. وتقدم بعض الدول حوافز للمجندين الطوعيين، مثل مكافآت مالية أو أولوية في التوظيف الحكومي أو فرص تعليمية محسنة.
تواجه أوروبا ضغوطاً متزايدة لتعزيز قدراتها الدفاعية في ظل التهديد العسكري الروسي، وعدم اليقين بشأن مستقبل الدعم الأمني الأميركي، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية الامريكية. وقد بدأت دول أوروبية أخرى في اتخاذ خطوات مماثلة، بما في ذلك ألمانيا ودول البلطيق والسويد وكرواتيا، من خلال سن قوانين تهدف إلى توسيع جيوشها.
توسيع نطاق الخدمة العسكرية في أوروبا
تعتمد دول شمال أوروبا ودول البلطيق على مفهوم “الدفاع الشامل”، والذي يركز على زيادة عدد المجندين. تحتفظ فنلندا، على سبيل المثال، باحتياطي عسكري كبير يعتمد على التجنيد الإلزامي لجميع الذكور. وفي السويد، تم إحياء التجنيد الانتقائي في عام 2018، مع تسجيل إلزامي للرجال والنساء، لكن عملية الاختيار صارمة وتأخذ في الاعتبار عوامل مثل اللياقة البدنية والاستعداد للخدمة.
كما وسعت الدنمارك نظام التجنيد ليشمل النساء وزادت مدة الخدمة إلى 11 شهراً. أما في إستونيا، فيعتمد التجنيد الإلزامي على الذكور، بينما تعتمد لاتفيا وليتوانيا على القرعة العشوائية إذا لم يكن هناك عدد كاف من المتطوعين. أعادت كرواتيا أيضاً فرض التجنيد بعد 18 عاماً من إلغائه، بينما تعمل بولندا على خطة لتدريب عسكري واسع النطاق لجميع الذكور البالغين.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن غالبية السكان في عدة دول أوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبولندا، يدعمون شكلاً من أشكال الخدمة العسكرية الإلزامية. ومع ذلك، اختارت بعض الدول نموذجاً تطوعياً، مثل ألمانيا التي قررت مؤخراً عدم إعادة التجنيد الإلزامي، ولكنها ستعيد النظر في الأمر إذا لم تحقق أهدافها من التجنيد الطوعي.
التحديات التي تواجه ألمانيا في تعزيز قدراتها العسكرية
تواجه ألمانيا تحديات خاصة في تعزيز قوتها العسكرية، حيث تحتاج إلى زيادة عدد الجنود النظاميين إلى 260 ألفاً من 180 ألفاً حالياً، وإضافة مئات الآلاف من الجنود الاحتياطيين. على الرغم من توافر الموارد المالية، إلا أن ألمانيا تعاني من نقص في الموارد البشرية. ويعزى هذا النقص إلى عدة عوامل، بما في ذلك التغيرات الديموغرافية ونقص الاهتمام بالخدمة العسكرية بين الشباب.
في هذا السياق، تُعد عودة فرنسا إلى الخدمة العسكرية الطوعية خطوة مهمة نحو تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية. وهذا التحول يرجع إلى تقييم شامل للتهديدات الأمنية المتزايدة، والاعتبارات الاستراتيجية المتعلقة بتغير الدور الإقليمي والدولي لفرنسا. وتستند هذه الخطة على زيادة عدد الجنود القادرين على الانتشار، والذي يبلغ حالياً 77 ألف جندي فرنسي فقط، وهو عدد غير كاف لتغطية أي جبهة قتال واسعة.
الخوف من نشوب صراع مع الناتو، وتشديد روسيا على برامجها العسكرية، يفاقم من الوضع. ومع تقديرات عدد الجنود الروس الحاليين بحوالي مليون و320 ألف فرد، يحاول الكرملين تشكيل احتياطي استراتيجي.
التهديد الروسي ونظرة مستقبلية
تشير التقارير إلى أن روسيا بدأت في تشكيل احتياطي استراتيجي جديد من المجندين، حيث وقع قرابة 292 ألف شخص عقوداً مع وزارة الدفاع الروسية منذ بداية عام 2025. ويعكس هذا التحرك استعداداً روسياً محتملاً لتصعيد الصراع في أوكرانيا أو لمواجهة عسكرية محتملة مع حلف الناتو. ويهدف برنامج الخدمة العسكرية الطوعية الفرنسي إلى مواجهة هذه التطورات من خلال زيادة عدد الجنود المحترفين القادرين على الاستجابة لأي تهديد.
في الوقت الحالي، يُتوقع أن تتخذ الحكومات الأوروبية خطوات إضافية لتعزيز قدراتها الدفاعية في الأشهر والسنوات المقبلة. وينصب التركيز على زيادة الإنفاق الدفاعي، وتسريع عمليات التسلح، وتعزيز التعاون العسكري بين الدول الأعضاء في حلف الناتو. وتعتبر الميزانيات الدفاعية لعام 2026 وأساليب التمويل، من الامور التي ستراقبها جميع الدول.
يشكل الوضع الأمني الحالي في أوروبا تحدياً كبيراً، ويتطلب استجابة حاسمة ومنسقة. ومن المرجح أن تستمر المخاوف بشأن التهديد الروسي في دفع الدول الأوروبية إلى تعزيز استعداداتها العسكرية، مع ما يترتب على ذلك من تأثير على السياسات الداخلية والخارجية.










