أثار الحشد العسكري الأمريكي في منطقة الكاريبي والتهديدات التي يوجهها الرئيس دونالد ترامب لنظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والذي وصفه بأن “أيامه باتت معدودة”، نقاشاً واسعاً حول تاريخ التدخلات العسكرية الأمريكية في أمريكا اللاتينية. تعتبر واشنطن هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية، وغالباً ما يُنظر إليها على أنها “ساحتها الخلفية”، مما أدى إلى سلسلة من العمليات العسكرية و الإجراءات السياسية على مر العقود.
وثّقت دراسات أكاديمية قيام الولايات المتحدة بتغيير حكومات في دول أمريكا اللاتينية ما لا يقل عن 41 مرة بين عامي 1898 و1994، بمعدل تقريبي يبلغ مرة واحدة كل 28 شهراً. هذا التاريخ الطويل من التدخلات يثير تساؤلات حول دوافع السياسة الأمريكية في المنطقة و تأثيرها على استقرار الدول اللاتينية.
بنما.. مثال على التدخل المباشر
شهدت السنوات الأخيرة من القرن العشرين عدة عمليات عسكرية أمريكية تستهدّف تغيير الأنظمة الحاكمة في أمريكا اللاتينية. بدأت هذه العمليات في عام 1983 مع التدخل في جرينادا، بسبب قلق واشنطن من ميل حكومتها إلى المعسكر السوفييتي آنذاك، وتلتها عملية مماثلة في بنما بعد سبع سنوات.
في الثمانينيات، برز الجنرال مانويل نورييجا كشخصية قوية في بنما، حيث شغل مناصب مهمة في الاستخبارات. على الرغم من علاقته الوثيقة بالجهات الأمريكية لسنوات عديدة، إلا أن هذه العلاقة تحولت إلى عداء مفتوح.
تصاعد هذا العداء مع توجيه اتهامات أمريكية لنورييجا بالتورط في جرائم مثل غسيل الأموال وتهريب المخدرات، بالإضافة إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وقمع المعارضة السياسية. في عام 1988، وجهت إليه لوائح اتهام رسمية في قضايا تهريب المخدرات وغسل الأموال، مما دفع إدارة الرئيس جورج بوش الأب إلى اتخاذ قرار بالتدخل عسكريًا في عام 1990 لإنهاء حكمه.
وقبل هذا التدخل، شهدت بنما أزمة داخلية تفاقمت عندما ألغى نورييجا نتائج انتخابات كانت تشير إلى تقدم المعارضة بقيادة جييرمو إندارا. أدى ذلك إلى تشديد العقوبات الأمريكية وتعزيز وجودها العسكري في منطقة القناة. مع تصاعد التوتر بين القوات الأمريكية والجيش البنمي وإعلان حالة الحرب من قبل البرلمان البنمي، أعطى الرئيس بوش الأب الضوء الأخضر لعملية عسكرية واسعة النطاق.
“القضية العادلة” – غزو بنما وتداعياته
في 20 ديسمبر 1989، انطلقت طائرات عسكرية أمريكية تحمل الآلاف من الجنود نحو بنما، لتبدأ عملية “القضية العادلة”. كانت هذه العملية أكبر عملية عسكرية أمريكية منذ حرب فيتنام.
أوضح الرئيس بوش الأب في خطاب له الشعب الأمريكي أن العملية العسكرية ضد بنما استندت إلى أربعة أسباب رئيسية: مكافحة تهريب المخدرات، الدفاع عن الديمقراطية في بنما، حماية معاهدة قناة بنما، وحماية أرواح الأميركيين (بعد مقتل جندي من مشاة البحرية الأمريكية).
يذكر أن الرئيس الأمريكي جيمي كارتر قد وقّع في عام 1977 مع الرئيس البنمي عمر توريخوس على معاهدتين تاريخيتين، تُعرفان باسم “معاهدات توريخوس-كارتر”، لتنظيم عمل قناة بنما وحقوق الملاحة الأمريكية.
وبحسب موقع الجيش الأمريكي، كان الهدف الرسمي للغزو هو الإطاحة بالجنرال نورييجا، الذي تحول من حليف لوكالة الاستخبارات المركزية إلى “عدو”، بسبب تورطه في تهريب المخدرات وتزوير نتائج انتخابات عام 1989. استهدف الجيش الأمريكي الدفاعات الجوية البنمية وقصف مقر قيادة قوات الدفاع البنمية، بينما هبطت قوات المظلات في مطار توكومن لمنع نورييجا من الهروب. (فريق منظمة EAAF الأرجنتينية في بنما)
بحلول 3 يناير 1990، استسلم الجنرال نورييجا بعد أيام من الحصار النفسي الذي تخلله تشغيل موسيقى الروك بصوت عالٍ في محيط السفارة. أُلقي القبض عليه ونُقل إلى ميامي لمحاكمته بتهم تتعلق بتهريب المخدرات. وحُكم عليه لاحقاً بالسجن لمدة 40 عامًا، وأُطلق سراحه في عام 2007، ثم سُلّم إلى فرنسا ثم إلى بنما، حيث توفي في عام 2017.
لا يزال عدد الضحايا يثير الجدل، حيث أعلن البنتاجون عن سقوط 23 جندياً أمريكياً ومقتل 314 من قوات نورييجا. لكن منظمات حقوقية بنمية وتقرير لجنة مستقلة أمريكية قدّرت عدد الضحايا المدنيين بنحو 500 شخص، معظهم في حي التشوريو الذي دُمر بالكامل. (وكالة أسوشيتد برس)
انتهى الغزو رسميًا في 31 يناير 1990، وتسلمت المعارضة بقيادة جييرمو إندارا السلطة. لكن بنما ظلت تعاني لسنوات طويلة من آثار القصف وفقدان السيادة.
سجل طويل من التدخلات العسكرية الأمريكية في أمريكا اللاتينية
لم يكن الغزو الأمريكي لبنما حدثًا معزولاً، بل كان جزءًا من سلسلة طويلة من التدخلات الأمريكية في منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية على مر العقود. شملت هذه التدخلات نشر القوات في كوبا وغزو هايتي في عام 1994.
على مدى قرن تقريبًا، نظرت الولايات المتحدة إلى دول أمريكا اللاتينية على أنها منطقة ذات أهمية خاصة، وسعت إلى التأثير في سياساتها الداخلية من خلال تدخلات مباشرة وغير مباشرة، سواء عسكريًا أو بدعم الانقلابات أو من خلال الضغط الاقتصادي والسياسي.
وفي جواتيمالا عام 1954، لم تقم الولايات المتحدة بغزو مباشر، بل أشرفت وكالة الاستخبارات المركزية على عملية سرّية أُطلق عليها PBSUCCESS، بهدف الإطاحة بالرئيس جاكوبو أربينث، الذي سعى إلى إصلاحات زراعية هددت مصالح شركات أمريكية مثل United Fruit.
في تشيلي، تعرض الرئيس المنتخب سلفادور أليندي لحملة أمريكية واسعة النطاق من وكالة الاستخبارات المركزية، دعمت الانقلاب الذي قاده الجنرال أوجوستو بينوشيه في عام 1973.
أما التدخل في جرينادا عام 1983، فتم تبريره بهدف “استعادة الديمقراطية” وحماية الطلاب الأمريكيين، وقد اعتبر نموذجًا لعمليات سريعة أخرى في منطقة الكاريبي. وفي هايتي عام 1994، استخدمت الولايات المتحدة قرارًا من مجلس الأمن لتبرير تدخلها العسكري وإعادة الرئيس المنتخب جان-بيرتران أريستيد.
تطورات الوضع الحالي و ما يجب مراقبته
إن الانتشار العسكري الأمريكي الحالي في الكاريبي، بما في ذلك حاملة الطائرات USS Gerald R. Ford والسفن الحربية، يذكر بالتدخلات السابقة. وعلى الرغم من تصريحات الرئيس ترامب التي تشير إلى إمكانية إجراء محادثات مع مادورو، إلا أن الاستعدادات العسكرية الأمريكية مستمرة في المنطقة.
تعتبر تصنيف الولايات المتحدة لـ “كارتل دي لوس سوليس” كـ “تنظيم إرهابي أجنبي” و فرض عقوبات إضافية، خطوة قد تبرر تدخلًا عسكريًا أمريكيًا في فنزويلا أو محيطها.
من المتوقع أن تتخذ الولايات المتحدة قرارًا نهائيًا بشأن قرب تدخلها في فنزويلا في الأيام القليلة القادمة. يجب مراقبة تطورات الوضع في المنطقة عن كثب، وأي تحركات عسكرية أمريكية إضافية، بالإضافة إلى ردود فعل الحكومة الفنزويلية وتفاعلات المجتمع الدولي.










