أعلنت الإدارة الأمريكية منتصف ليل الخميس الجمعة عن استراتيجيتها للأمن القومي الجديدة، مع إعطاء أولوية واضحة للجزء الغربي من الكرة الأرضية، أي الأمريكيتين، في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وتأتي هذه الاستراتيجية في ظل تحول في الأولويات، حيث تشير إلى تراجع أهمية الشرق الأوسط ليس بسبب فقدان المنطقة لأهميتها الاستراتيجية، بل لأنها لم تعد تشكل بؤرة للأزمات المتلاحقة، بل تتحول تدريجياً إلى ساحة للشراكة والاستثمار. هذه الاستراتيجية الجديدة تمثل تحولاً كبيراً في نهج واشنطن تجاه العالم.
وتركز الاستراتيجية، التي نُشرت على الموقع الرسمي للبيت الأبيض، على “الفوز اقتصادياً” في المستقبل، ومنع المواجهة العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتشجيع أوروبا على زيادة اعتمادها على الذات، والانخراط في شراكات جديدة مع القارة الأفريقية. وتعتبر الإدارة الأمريكية أن السنوات الماضية شهدت إهمالاً نسبياً للجزء الغربي من الكرة الأرضية، مما أتاح لمنافسين دوليين التوسع في النفوذ الاقتصادي والأمني في هذه المنطقة الحيوية.
التحول في الأولويات الأمريكية: استراتيجية الأمن القومي الجديدة
تعتمد الاستراتيجية الجديدة على تحديث مبدأ مونرو، المعروف باسم “الملحق الترمبي”. مبدأ مونرو، الذي يعود إلى عام 1823، يرفض التدخل الأوروبي في شؤون الدول الأميركية، مقابل عدم تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الأوروبية. تهدف الإدارة الأمريكية من خلال هذا التحديث إلى تعزيز نفوذها في نصف الكرة الغربي ومواجهة التحديات المتزايدة من قوى أخرى.
وتشير الاستراتيجية إلى أن منطقة الشرق الأوسط كانت على مدى عقود تشكل أولوية قصوى في السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك لأسباب واضحة. فقد كان الشرق الأوسط المصدر الرئيسي للطاقة في العالم، وساحة للتنافس بين القوى العظمى، وبؤرة للصراعات التي هددت الاستقرار الإقليمي والعالمي.
الشرق الأوسط: تقاسم الأعباء وبناء السلام
ومع ذلك، ترى الإدارة الأمريكية أن هذه الحقائق قد تغيرت. فقد تنوعت مصادر الطاقة بشكل كبير، وأصبحت الولايات المتحدة مجدداً مصدراً صافياً للطاقة. كما أن التنافس بين القوى العظمى قد تراجع إلى حد ما، مع احتفاظ واشنطن بموقعها القوي، مدعوماً بجهود ترمب في إعادة إحياء التحالفات في الخليج ومع الشركاء العرب وإسرائيل.
وتعترف الاستراتيجية بأن النزاعات في المنطقة لا تزال قائمة، لكنها تعتبر أن حجمها قد تقلص عما يبدو في وسائل الإعلام. وتشير بشكل خاص إلى تراجع نفوذ إيران، التي تعتبرها القوة الأكثر زعزعة للاستقرار في المنطقة، وذلك نتيجة للعمليات الإسرائيلية وعملية “مطرقة منتصف الليل” الأمريكية. كما تعتبر أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يزال معقداً، لكن وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن الذي تم التوصل إليه مؤخراً قد يفتح الباب أمام تهدئة أطول أمداً.
وتؤكد الاستراتيجية أن الشرق الأوسط يتحول تدريجياً إلى مركز للاستثمار الدولي، في قطاعات تتجاوز النفط والغاز، مثل الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي والتقنيات الدفاعية. وترى أن الولايات المتحدة يمكن أن تعمل مع شركائها في المنطقة لتعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة، مثل حماية سلاسل التوريد وتوسيع الفرص التجارية في أفريقيا.
الاستقطاب والتوسع: استعادة الدور الأمريكي
وتركز الاستراتيجية على محورين رئيسيين لاستعادة الدور الأمريكي: “الاستقطاب” و”التوسع”. يهدف الاستقطاب إلى بناء تحالفات قوية وإعادة الانتشار العسكري، بينما يهدف التوسع إلى توسيع شبكة الشركاء ومنع تمدد القوى الدولية الأخرى. وتشدد الاستراتيجية على أهمية التعاون الوثيق مع القطاع الخاص لتحقيق هذه الأهداف.
وتؤكد الإدارة الأمريكية على ضرورة التعامل مع دول الشرق الأوسط كما هي، والعمل معها في مجالات المصالح المشتركة. وتشدد على أن العلاقة الناجحة مع المنطقة تتطلب التخلي عن محاولات فرض تغييرات في التقاليد والهياكل السياسية للدول، وتشجيع الإصلاحات التي تنشأ من الداخل.
وتشير الاستراتيجية إلى أن منطقة الإندو-باسيفيك تمثل حالياً مصدراً رئيسياً للناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومن المتوقع أن تزداد أهميتها في المستقبل. وتركز الإدارة الأمريكية على المنافسة الاقتصادية مع الصين في هذه المنطقة، وتسعى إلى إعادة توازن العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
الشرق الأوسط: شراكة استراتيجية جديدة
وفيما يتعلق بأوروبا، ترى الاستراتيجية أن السياسة الأمريكية يجب أن تركز على إعادة الاستقرار داخل القارة وتحقيق الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا. كما تشدد على أهمية تمكين أوروبا من الوقوف على قدميها وتحمل المسؤولية عن دفاعها الخاص.
من المتوقع أن تشهد الأشهر القادمة خطوات عملية لتنفيذ هذه الاستراتيجية الجديدة، بما في ذلك إعادة توزيع القوات الأمريكية، وتوسيع التحالفات، وتعزيز التعاون الاقتصادي. وسيكون من المهم مراقبة ردود فعل الدول الأخرى على هذه الاستراتيجية، وكيف ستؤثر على التوازنات الإقليمية والعالمية. يبقى أن نرى كيف ستتطور هذه الشراكات الجديدة، وما إذا كانت ستؤدي إلى تحقيق الأهداف التي حددتها الإدارة الأمريكية.










