اجابت دار الافتاء المصرية عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:”حكم تصدُّق الزوجة من مال زوجها دون إذنه؟ هناك امرأةٌ تُحبُّ التصدُّق على الفقراء والمساكين رجاءَ الأجر والثواب من الله تعالى، ولأنَّها لا تملك مالًا فإنها تتصدق من مال زوجها بغير إذنه ورضاه، ولا ترى في ذلك بأسًا، فهل لها أن تفعل ذلك شرعًا؟”.
لترد دار الإفتاء موضحة: انه لا يجوز للزوجة أن تتصدَّق من مال زوجها بالشيء الثَّمين حتَّى يأذن لها صراحةً، أمَّا الشيء اليسير الذي يُعلَم رضاه به عُرفًا وتطيب به نفسه عادةً، وكانت نفسه كغالب الناس سَمْحَةً لا تبخل بمثله: فإنَّه يجوز لها أن تتصدَّق به وإن لم يأذن لها صراحةً، فإنِ اضْطَرب العُرف أو عُلِمَ من حال الزوج أنَّه لا يرضى به: فإنَّه لا يجوز لها أن تتصدَّق بشيءٍ من ماله حتَّى يأذن لها إذنًا صريحًا.
فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله
حثَّ الشرع الشريف على الصَّدقة وندب إليها، فقال تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: 245].
قال الإمام أبو بكر ابن العربي في “أحكام القرآن” (1/ 306-307، ط. دار الكتب العلمية): [جاء هذا الكلام في معرِض النَّدب والتَّحضيض على إنفاق المال في ذاتِ الله تعالى على الفقراء والمحتاجين، وفي سبيل الله بنصرة الدِّين] اهـ.
ثمَّ بيَّن الله تعالى تلك الأضعاف الكثيرة في قوله جلَّ شأنه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261].
قال الإمام فخر الدين الرَّازِي في “مفاتيح الغيب” (6/ 500-501، ط. دار إحياء التراث العربي): [أمَّا قوله تعالى: ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ فمنهم من ذكر فيه قدرًا معيَّنًا، وأجود ما يُقال فيه: إنَّه القدر المذكور في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾ فيقال: يُحمَل المجمل على المفسَّر؛ لأنَّ كلتا الآيتين وَرَدَتَا في الإنفاق] اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» أخرجه الإمام البخاري في “صحيحه”.
قال الإمام بدرُ الدِّين العَيْنِي في “عمدة القاري” (8/ 270، ط. دار إحياء التراث العربي): [وتربية الصَّدقات مضاعفة الأجر عليها، وإن أُريد به الزيادة في كَمِّيَّةِ عَيْنِها ليكون أثقل في الميزان لم يُنكَر ذلك] اهـ.
بيان أن من شرط أداء الصدقة أن يكون المتصدق مالكًا للمال أو مأذونًا له بالتصرف فيه
متى أراد المُكلَّف أن يتصدَّق ببَذْل المال في وجوهِ الخير ابتغاءَ المثوبةِ من الله تعالى، فإنَّه يتصدَّق ممَّا مَلَكهُ بأيِّ سببٍ من أسبابِ المِلك، فإن كان المال مملوكًا لغيره فإنَّه يُشترط أن يأذن له بالتَّصدُّق أو يَعلَم رضاه به؛ إذ “لا يجوز لأحدٍ أن يتصدَّق من مال أحدٍ غيره بغير إذنه”، كما قال الإمام ابن بَطَّال في “شرح صحيح الإمام البخاري” (3/ 426، ط. مكتبة الرشد).
والأصل في ذلك: عموم قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29].
قال الإمام فخر الدين الرَّازِي في “مفاتيح الغيب” (10/ 56): [خصَّ الأكل هاهنا بالذكر وإن كانت سائر التَّصرُّفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة، لما أنَّ المقصود الأعظم من الأموال: الأكل] اهـ.
وعن أبي حُرَّة الرَّقَاشِيِّ، عن عمِّه رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» أخرجه الإمام البيهقي في “السنن الكبرى”.
قال المُلَّا عليٌّ القَارِي في “مرقاة المفاتيح” (7/ 149، ط. دار الفكر): [«إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ» أي: بأمرٍ أو رضا منه] اهـ.
بيان اختلاف الفقهاء في حكم تصدق الزوجة من مال زوجها دون إذنه
لَمَّا كان إذنُ ربِّ المال أو العلم برضاه شرطًا لمشروعية التَّصَدُّق من ماله، فإنَّه لا يجوز للزوجة أن تتصدَّق بشيءٍ من مال زوجِها إلا بإذنه.
ثم الإذنُ على ضربين: أحدهما: الإذن الصريح في النفقة والصدقة، والثاني: الإذن المفهوم من اطِّراد العُرف والعادة، كإعطاء السائل كِسرَةً ونحوها ممَّا جرت العادة به واطَّرد العُرف فيه، وعُلِم بالعرف رضاءُ الزوج به، فإذنه في ذلك حاصلٌ وإن لم يتكَّلم. ينظر: “شرح صحيح الإمام مسلم” للإمام النَّوَوِي (7/ 112، ط. دار إحياء التراث العربي).
وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الرواية المشهورة؛ حيث لم يُجوِّزوا للزوجة أن تتصدَّق بشيءٍ من مال زوجها بغير إذنه، إلَّا أن يكون شيئًا يسيرًا، كالرغيف ونحوه ممَّا تَسْمَح به النفسُ في العادة وتبذُله من غير غضاضة ولا تَبخَل به، فإذنه به مفهومٌ من اطِّراد العُرف والعادة.
مستدلين على ذلك بما روته السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا» أخرجه الشيخان في “صحيحيهما”.
وبما رواه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: لَمَّا بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءُ، قَامَتِ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا، وَأَبْنَائِنَا -قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَأُرَى فِيهِ: وَأَزْوَاجِنَا- فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ فَقَالَ: «الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ» أخرجه الإمامان: أبو داود في “السنن”، والبيهقي في “السنن الكبرى”. و”الرَّطْب: الخبزُ والبَقْلُ والرُّطَب”.
فقد نبَّه صلى الله عليه وآله وسلم باليسير من الطعام إشارةً إلى أنَّه قدرٌ يُعلَم رضا الزوج به؛ لأنَّ يسير الطعام ممَّا يُسمح به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حقِّ أكثرِ النَّاس وفي كثيرٍ من الأحوال، كما في “شرح صحيح الإمام مسلم” للإمام النَّوَوِي (7/ 113).
قال الإمام أبو بكر الزَّبِيدِي الحنفي في “الجوهرة النيرة” (1/ 367، ط. المطبعة الخيرية): [ولا بأس أن تتصدَّق المرأةُ من بيت زوجِها بالشيء اليسير كالرغيف ونحوه؛ لأنَّ ذلك غير ممنوعٍ منه في العادة، ولا يجوز بالدراهم والثياب والأثاث] اهـ.
وقال الإمام أبو عُمر ابن عبد البَرِّ المالكي في “الكافي” (2/ 563، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [المرأة راعية على بيت زوجها وذات يده، فعليها أن تحفظه في نفسها وماله ولا تخرج إلا بإذنه، ولا تبذر من ماله شيئًا ولا تعطيه وإن قلَّ إلا عن طيب نفسٍ منه، وقد رُخِّصَ لها في الصَّدقةِ من ماله بالتَّافه الذي يُعلَم أنَّه تطيب به نفسه] اهـ.
وقال الإمام النَّوَوِي الشافعي في “المجموع” (6/ 244، ط. دار الفكر): [يجوز للمرأة أن تتصَدَّق من بيت زوجها للسائلِ وغيره بما أذن فيه صريحًا، وبما لم يأذن فيه ولم ينهَ عنه إذا علمت رضاهُ به، وإن لم تعلم رضاه به فهو حرام] اهـ.
وقال الإمام برهان الدين ابن مُفْلِح الحنبلي في “المبدع” (4/ 324، ط. دار الكتب العلمية): [(وهل للمرأة الصَّدقةُ من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟) أي: باليسير (على روايتين) المشهور في المذهب: لها ذلك] اهـ.
بينما ذهب الحنابلة في الرواية الثانية إلى عدم جواز تَصدُّق الزوجة بشيءٍ من مال زوجها، إلا أن يأذن في ذلك صراحةً، وسواءٌ في ذلك القليل والكثير؛ لحديث أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع يقول: «لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا»، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: «ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا» أخرجه الإمام الترمذي في “جامعه”.
“فإذا لم تَجُز الصَّدقة بما هو أقَلُّ قدرًا من الطَّعام بغير إذن الزوج، فكيف تجوز بالطَّعام الذي هو أفضل؟!”، كما قال المُلَّا عليٌّ القَارِي في “مرقاة المفاتيح” (4/ 437).
قال الإمام ابن قُدَامَة في “المغني” (4/ 349-350، ط. مكتبة القاهرة): [هل يجوز للمرأة الصَّدقة من مال زوجها بالشَّيْءِ اليسير بغير إذنه؟ على روايتين.. الرواية الثانية: لا يجوز] اهـ.
وقد أجاب الجمهورُ عن حديث أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه من وجهين:
الوجهُ الأوَّل: أنَّه محمولٌ على الطَّعام المُدَّخر كالِحْنَطةِ ودقيقها، فأمَّا غير المُدَّخر فإنَّها تتصدَّق به على رَسْم العادة، وفيه الإذن دلالةً، كما في “البناية شرح الهداية” للإمام بدر الدين العَيْني (11/ 145، ط. دار الكتب العلمية).
الوجه الثاني: أنَّ الأحاديث التي تُجيز تَصَدُّق الزَّوجة من مال زوجها بالشيء اليسير قد جاءت خاصَّةً صريحةً، وحديث أبي أُمامة عامٌّ، والخاص يُقدَّم على العامِّ ويُبَيِّنُهُ، كما في “المغني” للإمام ابن قُدَامَة (4/ 350).
كما يمكن الجمع بين الأحاديث التي تدلُّ على منع المرأة من أن تنفق شيئًا من بيت زوجها إلا بإذنه، كحديث أَبِي أُمَامَة رضي الله عنه، والأحاديث التي تدل على الإباحة بحصول الأجر لها، كحديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها -بأنَّ سماح الزوج في التَّصدُّق باليسير من ماله وإن لم يأذن به صراحةً يختلف باختلاف عادات البلاد، وباختلاف حال الزوج من مسامحته ورضاه بذلك أو كراهته له، وباختلاف الحال في الشيء المُنْفَق بين أن يكون شيئًا يسيرًا يَتَسَامح به، وبين أن يكون ثمينًا يبخل الزوج بمثله، وبين أن يكون ذلك من الطعام الذي يُخشَى عليه الفساد إن تأخَّر، وبين أن يكون مما يُدَّخَر ولا يُخشَى عليه الفساد، كما في “عمدة القاري” للإمام بدر الدين العَيْنِي (8/ 292).
فلا تعارض حينئذٍ بين ما استدل به الجمهور من نحو حديث السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها الذي يفيد جواز التصدُّق من مال الزوج، وبين حديث أَبِي أُمَامَة رضي الله عنه الذي يفيد عدم جواز ذلك؛ إذ دليل الجمهور محمولٌ على اليسير من المال والطعام الذي لا يُبخلُ بمثله عادةً، وحديث أُبِي أُمَامَة رضي الله عنه محمولٌ على التصدُّق بالطعام غالي الثمن الذي يُبخَلُ بمثله عادةً.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا يجوز للزوجة أن تتصدَّق من مال زوجها بالشيء الثَّمين حتَّى يأذن لها صراحةً، أمَّا الشيء اليسير الذي يُعلَم رضاه به عُرفًا وتطيب به نفسه عادةً، وكانت نفسه كغالب الناس سَمْحَةً لا تبخل بمثله: فإنَّه يجوز لها أن تتصدَّق به وإن لم يأذن لها صراحةً، فإنِ اضْطَرب العُرف أو عُلِمَ من حال الزوج أنَّه لا يرضى به: فإنَّه لا يجوز لها أن تتصدَّق بشيءٍ من ماله حتَّى يأذن لها إذنًا صريحًا.