عندما يتحول الفيلم الوثائقي إلى عمل درامي مشوق، يضاهي في إتقانه أفلام المخرجين الكبار مثل مارتن سكورسيزي نفسه، تكون النتيجة سلسلة Mr. Scorsese، والتي بدأت في العرض مؤخرًا على منصة Apple TV+. هذا العمل ليس مجرد توثيق لحياة المخرج الأسطوري، بل هو بورتريه سينمائي معمق يستكشف مسيرته الفنية والشخصية.
أكثر من مجرد إخراج: دراسة في صُنْع بورتريه سكورسيزي
لا يقتصر عمل المخرجة ريبيكا ميلر على “الإخراج” أو “التأليف والإخراج” التقليديين، بل يتجاوز ذلك لتقديم تحليل فني وروحي لشخصية سكورسيزي. إنها تقدمه كلوحة فنية متكاملة، تتداخل فيها التفاصيل الشخصية مع الإبداعات السينمائية. ميلر، البالغة من العمر 63 عامًا، مخرجة ومؤلفة مرموقة، اشتهرت بفيلمها “Personal Velocity” الحائز على جائزة فضية من مهرجان صاندانس، ولديها مجموعة متنوعة من الأعمال الروائية والوثائقية.
تأتي ميلر من خلفية فنية عائلية قوية، فهي ابنة الأديب الشهير آرثر ميلر. بالإضافة إلى ذلك، هي زوجة الممثل دانيال داي لويس وأم المخرج رونان داي لويس. هذه الخلفية الغنية منحتها فهمًا عميقًا للفن والإبداع، مما انعكس على طريقة تعاملها مع هذا المشروع الطموح. كما ان دانيال داي لويس، الذي شارك سكورسيزي في أفلام مثل “The Age Of Innocence” و”Gangs Of New York”، يظهر كضيف عمل في المسلسل.
من فيلم واحد إلى سلسلة من خمسة أجزاء
في البداية، كان من المفترض أن يكون العمل فيلمًا وثائقيًا واحدًا، على غرار فيلم ميلر عن والدها. لكن مع تزايد المواد المتوفرة، أدركت ميلر أن حياة سكورسيزي ومسيرته المهنية تتطلبان مساحة أكبر للتعبير، لذلك تحول المشروع إلى سلسلة مكونة من خمسة أجزاء، تقارب مدة عرضها خمس ساعات. هذا التحول يعكس مدى تعقيد وثراء حياة سكورسيزي.
يستكشف المسلسل العلاقة الوثيقة بين حياة سكورسيزي وأفلامه، وكيف أثرت تجاربه الشخصية على رؤيته الفنية. يتناول المسلسل أيضًا تأثير السينما في حياته، وكيف ساعدته في التغلب على التحديات الصحية والاقتصادية التي واجهته في طفولته، مثل إصابته بالربو وظروفه المعيشية الصعبة. يبرز العمل كيف استطاع سكورسيزي، من خلال موهبته وإصراره، أن يصبح واحدًا من أهم مخرجي السينما في العالم.
أسلوب ميلر: المعلم والتدفق السينمائي
تعتمد ميلر في بناء هذا العمل السينمائي الضخم على أسلوب مشابه لأسلوب سكورسيزي نفسه في الإخراج، حيث يجمع بين المونتاج الديناميكي، والتداخل البصري والسمعي، وتدفق الحكي السلس. يذكر هذا الأسلوب بأسلوب “تيار الوعي” في الأدب، واللوحات الجدارية البانورامية في الرسم. يهدف هذا الأسلوب إلى تقديم صورة شاملة ومتكاملة عن سكورسيزي، من خلال ربط التفاصيل الشخصية والمهنية في إطار زمني واحد.
يعتمد المسلسل على شهادات سكورسيزي نفسه، بالإضافة إلى شهادات العديد من الفنانين والمنتجين والنقاد الذين عملوا معه، مثل روبرت دي نيرو، وستيفن سبيلبرج، وبريان دي بالما. كما يشارك في المسلسل أفراد من عائلة سكورسيزي وأصدقاؤه القدامى، بالإضافة إلى المونتيرة ثيلما شونميكر، التي شاركته صنع معظم أفلامه. هذا التنوع في وجهات النظر يمنح المسلسل عمقًا ومصداقية.
الواقع والفن: التقمص والارتجال في عالم سكورسيزي
يعرض المسلسل كيف يعيش سكورسيزي الدراما والشخصيات بشكل كامل لدرجة قد تؤثر على حالته النفسية. هذه الطريقة في العمل، المعروفة بأسلوب “التمثيل بالطريقة”، تسمح له بالوصول إلى أعماق الشخصيات التي يصورها، ولكنها قد تتسبب أيضًا في معاناته الشخصية. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد سكورسيزي بشكل كبير على الارتجال في كتابة السيناريو والتمثيل، مما يمنح أفلامه طابعًا فريدًا ومميزًا.
يبرز المسلسل أيضًا العلاقة الفريدة التي تربط سكورسيزي بالسينما، وكيف كانت بمثابة ملاذ له في طفولته. فقد كان يقضي ساعات طويلة في دور العرض السينمائي هربًا من الربو والظروف المعيشية الصعبة. هذه العلاقة الوثيقة بالسينما انعكست على أفلامه، التي غالبًا ما تتناول موضوعات العنف والجريمة والتهميش.
التحديات والنجاحات: رحلة سكورسيزي
يستعرض المسلسل التحديات التي واجهت سكورسيزي في مسيرته المهنية، مثل الهجوم الذي تعرض له فيلمه “Taxi Driver” بسبب العنف الذي يحتويه، والتهديدات بالقتل التي تلقاها بعد إخراج فيلم “The Last Temptation Of Jesus Christ”. كما يتناول المسلسل الفشل التجاري الذي تعرضت له بعض أفلامه، وكيف تغلب عليه بفضل الدعم الذي تلقاه من ليوناردو دي كابريو. بورتريه سكورسيزي يقدم لنا رؤية شاملة ومعمقة لهذه الشخصية الإبداعية.
يختتم المسلسل بالتأكيد على أن نجاح سكورسيزي لا يقاس بالإيرادات أو الجوائز، بل بقيمة أعماله الفنية. لقد أثبت أن فنه أكبر من أي شيء آخر، وأنه قادر على تجاوز الحدود والتحديات لتقديم أعمال خالدة. مارتن سكورسيزي يمثل مثالًا للفنان الذي يعيش من أجل فنه، ولا يساوم على مبادئه أو رؤيته.
من المتوقع أن يثير هذا المسلسل نقاشًا واسعًا حول مسيرة سكورسيزي وأسلوبه الفني. ويبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت هذه السلسلة ستشجع المزيد من المخرجين على استكشاف حياة الفنانين الآخرين من خلال البورتريه السينمائي. المشاهدون ينتظرون بفارغ الصبر ردود الفعل النقدية واستكشاف تأثير هذا العمل على صناعة السينما الوثائقية.










