شددت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، على أن الولايات المتحدة تظل أكبر حليف لأوروبا، وذلك في رد فعل على استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة التي أثارت جدلاً واسعاً. الاستراتيجية، التي نشرها البيت الأبيض، تضمنت تقييمات حادة لوضع أوروبا، وكشفت عن تحول محتمل في أولويات واشنطن تجاه القارة. هذا التحول يثير تساؤلات حول مستقبل العلاقات عبر الأطلسي، خاصة في ظل التحديات الجيوسياسية المتزايدة.
وانتقدت الوثيقة الأوروبيين، مشيرةً إلى ضعف الثقة بالنفس، وتراجع القدرات الدفاعية، بالإضافة إلى خطر التغيرات الديموغرافية التي قد تؤثر على تماسك القارة وقدرتها على لعب دور فعال على الساحة الدولية. هذه الانتقادات تأتي في توقيت حساس، حيث تواجه أوروبا ضغوطاً اقتصادية وسياسية متزايدة.
استراتيجية الأمن القومي الأمريكي وتداعياتها على أوروبا
تعتبر استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة بمثابة تغيير كبير في النهج التقليدي لواشنطن تجاه أوروبا. فبدلاً من اعتبار القارة شريكاً استراتيجياً أساسياً، تتجه واشنطن نحو النظر إليها كعقبة محتملة أمام تحقيق مصالحها، أو حتى كساحة نفوذ تتنافس عليها القوى الكبرى. هذا التحول يظهر في التركيز المتزايد على محور المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.
وقالت كالاس خلال منتدى الدوحة إن أوروبا قد تكون تستهين بقوتها في مواجهة روسيا، مع التأكيد على ضرورة أن تكون القارة أكثر ثقة بنفسها. وأضافت أن التحالف مع الولايات المتحدة لا يزال حاسماً، رغم وجود خلافات في وجهات النظر حيال بعض القضايا.
انتقادات أمريكية للوضع في أوروبا
تضمنت الاستراتيجية انتقادات صريحة لبعض الحكومات الأوروبية، متهمةً إياها بتقويض العمليات الديمقراطية وقمع الأصوات الوطنية. كما أشارت إلى مخاوف بشأن تدفقات الهجرة إلى أوروبا وتأثيرها على التركيبة السكانية للقارة. هذه الاتهامات أثارت ردود فعل غاضبة في بعض العواصم الأوروبية.
ويرى محللون أن هذه الاستراتيجية لا تمثل بالضرورة سياسة انعزالية، بل هي محاولة لإعادة تشكيل أوروبا بما يتماشى مع رؤية واشنطن القومية والمحافظة. ويتحدثون عن رغبة أمريكية في إعادة هندسة القارة لتلبية احتياجاتها وتوقعاتها الخاصة.
دور الولايات المتحدة كوسيط بين أوروبا وروسيا؟
من أبرز جوانب الاستراتيجية الجديدة هو تقليل أهمية التهديد الروسي، بل وفي سياق مفاجئ، رصدت الوثيقة دورًا محتملاً للولايات المتحدة كوسيط بين أوروبا وروسيا. وهذا يمثل انقلاباً جذرياً في السياسة الأمريكية التي تعتبر روسيا الخطر الأكبر على الأمن الغربي منذ عقود. هذا التحول يثير تساؤلات حول مدى استعداد واشنطن لدعم أوروبا في مواجهة التحديات الروسية.
وتشير صحيفة “فاينانشيال تايمز” إلى أن الاستراتيجية الجديدة تدعو بشكل ضمني إلى دعم الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا، مما يشير إلى تدخل سياسي أمريكي محتمل في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية. هذا الأمر يثير قلقاً بالغاً في أوساط المراقبين الذين يرون فيه تهديداً للديمقراطية الأوروبية.
“مبدأ مونرو” الجديد وتأثيره على السياسة الخارجية الأمريكية
تُظهر الاستراتيجية التركيز المتزايد على النفوذ الأمريكي في النصف الغربي من الكرة الأرضية، في إشارة واضحة إلى عودة “مبدأ مونرو” الذي يهدف إلى منع التدخل الأوروبي في شؤون الأمريكتين. يتزامن هذا مع خطط لنقل القوات والموارد من الشرق الأوسط إلى الأمريكتين لمواجهة تحديات الهجرة والجريمة والتأثير المتزايد لدول مثل فنزويلا.
في المقابل، تراجعت حدة الخطاب المتشدد ضد الصين، مع التركيز على “تصحيح العلاقات التجارية” وتجنب أي مواجهة عسكرية. هذا التحول يعكس وعيًا أمريكيًا بأهمية الصين كشريك اقتصادي ومنافس استراتيجي.
ردود الفعل الأوروبية ومستقبل العلاقات عبر الأطلسي
أثارت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة موجة من الاستياء في العواصم الأوروبية. وصف وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول انتقادات واشنطن بأنها “دروس من الخارج” غير ضرورية. وأعربت حكومات أخرى عن استنكارها للنهج الأمريكي الجديد، الذي يعتبرونه بمثابة خيانة للتحالف عبر الأطلسي.
ومع ذلك، أكدت المفوضية الأوروبية أن العلاقة مع واشنطن ستظل “ركيزة أساسية” لأمن القارة، مع رفضها القاطع للاتهامات الموجهة إلى أوروبا بشأن الهجرة أو الديمقراطية. هذا الموقف يعكس رغبة أوروبا في الحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة، رغم الخلافات القائمة.
من المتوقع أن تثير هذه الاستراتيجية نقاشات حادة داخل الاتحاد الأوروبي حول مستقبل السياسة الخارجية والأمنية للقارة. وستشكل هذه النقاشات أساساً لاتخاذ قرارات مهمة بشأن كيفية التعامل مع واشنطن في السنوات القادمة. يبقى من غير الواضح ما إذا كانت أوروبا ستتمكن من التغلب على هذه التحديات والحفاظ على وحدتها وتماسكها.
وما يجب مراقبته في الفترة القادمة هو رد الفعل الرسمي من الاتحاد الأوروبي على هذه الوثيقة، ونتائج الزيارات والاجتماعات المرتقبة بين المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين. وأيضاً، مدى انعكاس هذه الاستراتيجية على السياسات العملية لواشنطن تجاه أوروبا خلال الأشهر القليلة المقبلة.










