أثار بحث حديث جدلاً واسعاً حول قدرات نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية، وتحديداً فيما يتعلق بـ فهم اللغة. فقد أظهرت دراسة أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا، بيركلي وجامعة روتجرز، أن أحد هذه النماذج قادر على تحليل اللغة بطرق معقدة تشبه إلى حد كبير قدرات طلاب الدراسات العليا في علم اللغة. هذا الاكتشاف يطرح تساؤلات حول الحدود الحقيقية للذكاء الاصطناعي في معالجة اللغة البشرية.
تأتي هذه النتائج في وقت يتزايد فيه الاعتماد على نماذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT في مختلف المجالات، من خدمة العملاء إلى كتابة المحتوى. وقد أثار هذا الاعتماد مخاوف بشأن دقة هذه النماذج وقدرتها على التفكير المنطقي، خاصةً في المهام التي تتطلب فهماً عميقاً لبنية اللغة وقواعدها. الجدل الدائر حالياً يركز على ما إذا كانت هذه النماذج مجرد “ببغاوات” متطورة قادرة على تقليد اللغة، أم أنها تمتلك بالفعل قدرات حقيقية على التحليل والفهم.
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفهم اللغة حقاً؟
لطالما اعتبرت اللغة من السمات المميزة للإنسان، حيث أشار أرسطو إلى أن الإنسان هو “الحيوان الذي يمتلك لغة”. ومع ذلك، فإن التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي، وخاصةً نماذج اللغة الكبيرة، يثير تساؤلات حول هذا التعريف التقليدي. فقد أصبحت هذه النماذج قادرة على توليد نصوص متماسكة وذات معنى، وحتى على إجراء محادثات تبدو طبيعية.
لكن العديد من اللغويين يجادلون بأن هذه القدرات سطحية، وأن النماذج تفتقر إلى الفهم الحقيقي للغة. ويرى نوام تشومسكي، وهو أحد أبرز علماء اللغة، أن “الشرح الصحيح للغة معقد ولا يمكن تعلمه بمجرد النقع في كميات كبيرة من البيانات”. بمعنى آخر، فإن مجرد تدريب نموذج على كم هائل من النصوص لا يمنحه القدرة على تحليل اللغة بطريقة إبداعية ومرنة.
تحدي التحيزات المسبقة في التدريب
أحد التحديات الرئيسية في تقييم قدرات نماذج اللغة هو التأكد من أنها لا تعتمد ببساطة على حفظ الأنماط الموجودة في بيانات التدريب. عادةً ما يتم تدريب هذه النماذج على كميات هائلة من النصوص المكتوبة، بما في ذلك الكتب المدرسية في علم اللغة. لذلك، قد يكون النموذج قادراً على الإجابة على الأسئلة اللغوية بشكل صحيح لمجرد أنه “تذكر” الإجابة من بيانات التدريب.
لتجنب هذا التحيز، قام الباحثون بتصميم اختبار لغوي يتكون من أربعة أجزاء. تضمن الاختبار تحليل جمل مصممة خصيصاً باستخدام مخططات شجرية، وهي أداة تحليلية قدمها تشومسكي في كتابه “التركيبات النحوية” عام 1957. تساعد هذه المخططات في تفكيك الجمل إلى مكوناتها الأساسية، مثل العبارات الاسمية والعبارات الفعلية، وتحديد العلاقات النحوية بينها.
التعامل مع التعقيد اللغوي: التكرار
ركز أحد أجزاء الاختبار على ظاهرة التكرار في اللغة، وهي القدرة على تضمين عبارات داخل عبارات أخرى. على سبيل المثال، الجملة “السماء زرقاء” بسيطة، ولكن يمكن تضمينها في جملة أكثر تعقيداً مثل “قالت جين أن السماء زرقاء”. والأهم من ذلك، أن هذه العملية يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، مما يخلق جملًا متداخلة ومعقدة للغاية. وقد أظهر النموذج الذي تم اختباره قدرة ملحوظة على التعامل مع هذا التعقيد، حيث تمكن من تحليل الجمل المتكررة بدقة.
بينما فشلت معظم نماذج اللغة الكبيرة في اجتياز الاختبار، أظهر نموذج واحد قدرات مثيرة للإعجاب تجاوزت التوقعات. تمكن هذا النموذج من تحليل اللغة بنفس الطريقة التي يفعل بها طالب الدراسات العليا في علم اللغة، من خلال رسم مخططات للجمل، وحل المعاني المتعددة الغامضة، والاستفادة من الميزات اللغوية المعقدة مثل التكرار.
ويرى توم ماكوي، وهو عالم لغويات حسابية في جامعة ييل لم يشارك في البحث، أن هذا العمل “في غاية الأهمية وفي توقيته المناسب”. وأضاف أن “مع اعتماد المجتمع بشكل متزايد على هذه التكنولوجيا، من المهم بشكل متزايد فهم المجالات التي يمكن أن تنجح فيها والتي يمكن أن تفشل فيها”. ويعتبر تحليل اللغة اختبارًا مثاليًا لتقييم مدى قدرة هذه النماذج على التفكير مثل البشر.
تتزايد الأبحاث في مجال معالجة اللغة الطبيعية، وتهدف إلى تطوير نماذج أكثر ذكاءً وقدرة على فهم اللغة البشرية. كما أن هناك اهتماماً متزايداً بتطوير نماذج قادرة على توليد لغة إبداعية وأصلية، وليس مجرد تقليد الأنماط الموجودة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن فهم قدرات وقيود نماذج اللغة له آثار مهمة على مجالات أخرى، مثل الترجمة الآلية وتحليل المشاعر. فكلما كانت هذه النماذج أكثر دقة في فهم اللغة، كلما كانت قادرة على أداء هذه المهام بشكل أفضل.
الخطوة التالية في هذا المجال هي تطوير اختبارات لغوية أكثر صرامة وتحديًا، والتي يمكن أن تكشف عن الفروق الدقيقة في قدرات نماذج اللغة المختلفة. كما أن هناك حاجة إلى مزيد من البحث في مجال تفسير النتائج التي تنتجها هذه النماذج، وفهم كيفية اتخاذها للقرارات. من غير المؤكد حتى الآن ما إذا كانت نماذج الذكاء الاصطناعي ستتمكن في النهاية من تحقيق فهم كامل للغة البشرية، ولكن الأبحاث الحالية تشير إلى أننا قد نكون أقرب إلى هذا الهدف مما كنا نعتقد.









